-------------------------------
* قال الفقيه عبد اللـه بن زيد العنسي رحمه الله تعالى (ت 667هـ/ 1268م) في كتابه (المحجة البيضاء: 1: 100أ- 101أ):
«أن التكلف تمكين من اكتساب المنافع الجسيمة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بهذا التمكين ليبلغ إليها، وكل ما هذه حاله فهو حسن.
وإنما قلنا بأن التكليف تمكين من ذلك لأنه تمكين من اكتساب الطاعة التي لولاها لَمَا تمكن من الوصول إلى الثواب الذي هو منافع عظيمة دائمة خالصة مفعولة على وجه الجزاء مستحقة على وجه الإجلال والتعظيم.
وإنما قلنا بأنه تمكين من الطاعة لأن الطاعة لا تكون طاعةَ فعلٍ أو ترْكٍ إلا فيما يجب أو يحسن من فعل أو ترك، وما يجب من الترك لا يصح إلا فيما يقبح فعله، وما يحسن من الفعل من غير أن يجب لا يصح إلا فيما الأَوْلى فعله، وقد ثبت أنه لا يمكن فعل الواجبات والمحسنات وترك المقبحات وما الأولى أن لا يفعل إلا بعد العلم بما يحسن ويجب ويقبح، فإن الفعل الواقع على وجه لا يصح فعله على ذلك الوجه إلا من عالِـم به ولا يصح العلم بذلك إلا بالعقل الذي يتضمن قبح مقبحات وحسن محسنات ووجوب واجبات، ثم بالأمر والنهي وما يجري مجراهما من الحكيم، فإن غير الحكيم يجوز أن يأمر بالقبيح وأن ينهى عن الحسن، ولا يمكن حصول المشقة في شيء من ذلك إلا مع الشهوة والنفار على الوجه الذي قدمناه، وقد ثبت أن هذه الأمور التي لا تمكن الطاعة إلا بها هي التكليف الذي عنيناه، فثبت أن التكليف تمكين من الطاعة لله عز وجل في الفعل والترك.
وإنما قلنا بأنه لولا الطاعة لَمَا تمكن من الوصول إلى الثواب الذي صفته ما ذكرنا لأن من صفته الإجلال والتعظيم والإجلال الجليل والتعظيم العظيم لا يثبت إلا مستحقا فإنه وإن جاز الابتداء تفضلا بيسير التعظيم فلن يحسن ذلك في كثير الإجلال والتعظيم، ألا ترى أنه يقبح منا أن نعظم السفلة على حد تعظيم الكبراء وأن نُجِلَّ الجهلاء والعوام كإجلال الأنبياء والعلماء وأن ننزل المسيء في باب الإجلال والتعظيم منزلة المحسن؛ وإنما قبح ذلك لأنه تعظيم لمن لا يستحق التعظيم؛ بدليل أنه لو كان تعظيما لمن يستحق التعظيم لَمَا قبُح، فصح أن الثواب لا يثبت إلا مستحقا، وقد ثبت أنه لا يستحق إلا على فعل الطاعة؛ لأنه لا يثبت إلا على وجه المجازاة من اللـه تعالى والمجازاة من اللـه تعالى بالتعظيم لا تصح إلا بما يفعله المكلَّف، فإن ما يفعله اللـه تعالى فيه لا يستحق عليه الإجلال والتعظيم، وكذلك ما يفعله غيره فيه وغير المكلف لا يستحق عليه الإجلال والتعظيم بالضرورة، وقد ثبت أن الإجلال والتعظيم لا يتعلق من فعل المكلف إلا بما تعلق به التكليف؛ ولهذا فإن الواحد منا بالضرورة/100أ/ لا يستحق المدح على المباحات والقبائح، فلم يبق إلا أنه يستحق على ما تعلق به التكليف من فعل المحسنات وترك المقبحات، فثبت أن الثواب الذي هو منافع عظيمة خالصة دائمة مفعولة على وجه الجزاء مستحقة على وجه الإجلال والتعظيم لا يمكن الوصول إليها إلا بالطاعة، وقد ثبت أن الطاعة لا يمكن اكتسابها إلا بالتكليف، فثبت بذلك أن التكليف تمكين من اكتساب المنافع التي لا يمكن اكتسابها إلا بالتكليف.
وإنما قلنا بأنه تعالى إنما جعله تمكينا من اكتسابها لأن يقع الوصول إليها؛ لأنه لا يخلو: أن يفعله لغرض أم لا، ومحال أن يكون مفعولا لا لغرض؛ لأنه يكون عبثًا والعبث قبيح. وإن كان مفعولا لغرض فلا يخلو: أن يرجع إليه تعالى من جلب المنافع أو دفع المضار، أو إلى المكلف، والأول محال؛ لاستحالة المنافع والمضار عليه، ومحال أن يكون راجعا إلى غيره بمضرة؛ لأنه ظلم والظلم قبيح، فلم يبق إلا أنه إنما مكننا بالتكليف [للوصول] لتلك المنافع، وقد ثبت أنه لا يمكن الوصول إليها إلا بالتكلف فثبت ما ذكرناه.
وإنما قلنا بأن ما هذه حاله فهو حسن لِمَا نعلمه من أن الواحد منا يحسن منه أن يمكِّن ولده وغيره من اكتساب المنافع بالعلوم والآداب والتجارات وأنواع المكاسب وأنه يكون محسنا إليه إذا مكنه من ذلك بالآلات وما لا يتم ذلك إلا به من الدنانير أو الدراهم أو غير ذلك؛ وإنما حسن ذلك لأنه تمكين من اكتساب المنافع التي لا يتم إلا بذلك التمكين الوصولُ إليها؛ بدليل أنه لو أمكن بدون ذلك لَمَا حسن، ولو لـم يكن ممكِّنا له من ذلك إلا باستدراجه إلى الهلاك لقبُح، وقد شاركه التكليف في الحسن وزاد عليه في ذلك؛ لأنه تمكين معلوم، وفي الشاهد كونه تمكينا من المنافع مظنون، فلا يدرى هل يتمكن به من العلوم والآداب والأرباح وأنواع المنافع أم لا، وكل عاقل يعلم أنه يتمكن بالتكليف من اكتساب الثواب وأنه لا يحرم الثواب إلا من قِبَلِ نفسه لا من قبل ربه، وكذلك فإن منافع الثواب عظيمة بخلاف منافع الدنيا فإنها حقيرة. وأيضًا فإنها خالصة عن الشوائب، بخلاف ما في الدنيا، وكذلك فإن الثواب يدوم والمنافع الدنياوية لا تدوم. وأيضًا فإن الثواب مستحق ومنافع الدنيا غير مستحقـ[ـة] ولا يخفى فَصْلُ ما بين المستحق وغير المستحق. وأيضً