عندما اندلعت موجة الجزع من «جنون البقر» في نهاية تسعينيات القرن الماضي، كتب عالم الأنثروبولوجيا الأشهر «كلود ليفي شتراوس» مقالاً بعنوان «درس جنون البقر»، ذهب فيه إلى أن ما يشكل خصوصية هذا الحدث هو انتقال الإنسانية إلى نوع جديد من ظاهرة «الكانبالية» (أي أكل الإنسان للحم البشر) التي كان يعتقد أنه تجاوزها منذ قرون طويلة بفضل التقدم الحضاري.
ما أشار إليه شتراوس هو انمحاء الفواصل الجوهرية بين الإنسان والحيوان التي اعتقدت البشرية أنها كرّستها جذرياً، من خلال تعليف الماشية بلحوم ميتة قبل أن يستخدمها الإنسان، وبذا ينتقل الفيروس الغامض من الحيوان إلى الإنسان، هادماً الحواجز الطبيعية والثقافية العميقة بين النوعين.
مع فيروس كورونا الجديد الذي انطلق من قلب الاقتصاد العالمي الجديد في الصين (مدينة ووهان) وانتقل حتى الآن إلى 15 دولة من مختلف القارات، يشهد العالم مرحلة جديدة من مراحل التهديد الفيروسي في أشكاله المتجددة التي فرضت إعلان حالة الطوارئ الصحية الدولية، بعد مضي 15 سنة على ظهور فيروس «سارس» ومن قبله «إنفلونزا الطيور» و«إنفلونزا الخنازير»، ثم فيروس «إيبولا» الذي اجتاح أفريقيا الغربية قبل سنوات.
ما يجمع كل هذه الموجات الفيروسية هو هذا التهديد الذي غدت تشكله علاقة الإنسان بالحيوان بعد فصول طويلة من تدجين الحيوانات الأليفة، والانتقال من اقتصاد الصيد إلى ثقافة الطبخ التي اعتبر شتراوس أنها مؤشر التحول من منزلة الطبيعة إلى منزلة الثقافة.
لقد بنى الإنسان تميزه عن الحيوان على ثلاثة أسس: العقل الخطابي الذي اهتم به الفلاسفة من العصر اليوناني، ومبدأ الكرامة والاصطفاء الذي حملته الديانات التوحيدية، ومنظور التاريخانية الإنسانية الذي تبنّته عصور الحداثة والتنوير.
ومعلوم أن المقاربة الطبية الحديثة تأسست على هذا التمييز الجذري بين الطب البشري والطب الحيواني، رغم استمرار طقوس القربان القديمة من خلال ممارسة التجريب العلاجي على الحيوانات التي تلتقي مع الإنسان في النظام البيولوجي، وإن اختلفت عنه نوعياً في النظامين النفسي والاجتماعي.
وإذا كانت نظرية النشوء والارتقاء الداروينية قد انبنت على فكرة حيوانية الإنسان، فإنها كرست في الآن نفسه مقولة التميز الإنساني من منظور التصور التطوري نفسه، الذي ينتج عنه بالضرورة تفرد البشر في سلّم التقدم الموجه غائياً.
نحن إذن أمام وضع جديد يختلف عن الأوبئة القاتلة التي عرفها التاريخ البشري، من موجات الطاعون المريعة في العصور الوسطى إلى الإنفلونزا الإسبانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي ذهب ضحيتها خمسون مليون قتيل من أشهرهم عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» والشاعر الفرنسي «أبولينير» والكاتب التشيكي «فرانز كافكا».
إنها في منطقها الأعمق تنسف محددين أساسيين من محددات العصور الراهنة: المحدد التبادلي الحر في المجتمعات المفتوحة المعولمة، والمحدد الأمني المتمحور حول ضبط الديناميكية السكانية الجماعية.
👇