إعداد الدكتور/ علي صالح كرار
لا يختلف اثنان في أن الطرق الصوفية قد شكّلت وجدان معظم أهل السودان وتركت آثاراً متعددة ومتجددة في الحياة السودانية منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي مما أكسب هذه الآثار أهمية خاصة في دراسة الأصول الفكرية للمجتمع والروافد المغذية والمؤثرة في تشكيل الشخصية السودانية وارتباط ذلك بالمتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الحقب التأريخية المختلفة.
ولعلنا نتفق مع البروفيسور الراحل الشيخ حسن قريب الله فيما ذهب إليه من أن التصوّف في السودان يعتبر متنفساً طبيعياً واتجاهاً حتمياً للمزاج الديني والنزعة الروحية التي ظلت تجلل المجتمع السوداني.(1)
تسعى هذه الورقة إلى تناول الطرق الصوفية في السودان من منظور تاريخي مستندة في ذلك إلى فيض من المصادر والمراجع التي تذخر بها دار الوثائق القومية ومكتبات مؤسساتنا العلمية والثقافية. ولن تكتمل جدوى هذا الطرح دون التعرض للسياق الاقتصادي والاجتماعي الذي ظهرت فيه هذه الطرق.
يرى البروفيسور عثمان سيد أحمد أن التطوّر التأريخي للإسلام في السودان يدفعنا إلى القول بأن الصوفية وجدت طريقها إلى السودان عقب انتشار الإسلام ودخوله مباشرة. (2) ويعزز هذا الرأي ما ذهب إليه البروفيسور يوسف فضل حسن من أن الثقافة الفقهية التي وجدت سبيلها إلى السودان منذ وقت مبكر لم تستهو كل السودانيين وفضّل عامة الناس الانخراط في التصوّف. (3)
ويذكر البروفيسور الراحل محمد إبراهيم أبو سليم أن الحركة الصوفية مرت خلال مسيرتها المتطوّرة في السودان بثلاث مراحل، مرحلة أولى: لا تتوفر معلومات عنها لانقطاع الأخبار وهذا بالتأكيد لا يعني أن السودانيين لم يشهدوا في هذه الفترة حركة صوفية، بل قد مارسوا الحياة الصوفية كاملة بما فيها الانتساب إلى الطرق والاشتغال بمذهب أهل الباطن في الحياة. ومرحلة ثانية: أخذت فيها الطرق تظهر وتنمو وتأخذ إتجاهات جديدة على نحو ما نجد في الطريقة الشاذلية التي إهتمت بالجوانب العلمية لأن مؤسسها كان عالماً. ثم جاءت المرحلة الثالثة والتي ظهرت نتيجة لمؤثرات الحجاز القوية والتي بدأت في أواخر القرن السابع عشر الميلادي وشهدت هذه المرحلة ظهور طرق ذات اتجاه تجديدي مثل السمانية والختمية والإسماعيلية، وإهتمت هذه الطرق إهتماماً كبيراً بنشر الدعوة بجانب تعاليمهم ومبادئهم. (4)
ويعتبر البروفيسور حسن مكي أن قيام سلطنة الفونج الإسلامية في عام 1504م على أنقاض مملكة سوبا المسيحية نقطة تحوّل وفاصلة حضارية مهمة بدلالاتها الفكرية والثقافية في اتجاه تكوين المجتمع السوداني الجديد. (5) فقد شجّع سلاطين الفونج توافد العلماء والمتصوفة للبلاد وأجزلوا لهم العطاء والهبات. ويذكر الدكتور إدريس سالم الحسن أن دولة الفونج قد أحدثت منذ عهودها الأولى تحولاً مهماً فيما يتعلق بملكية الأرض. فالسلطان هو المالك الفعلي للأرض غير المستخدمة في مملكة الفونج ويمكنه التصرف فيها كيفما شاء ولمن شاء سواء كان ذلك لفرد أو مجموعة. كما شكّلت التجارة المورد الأهم لعائدات دولة الفونج إذ تميزت عاصمتها سنار بموقع إستراتيجي في ملتقى الطرق بين أثيوبيا وغرب وجنوب السودان مع محاور التجارة عبر نهر النيل وعن طريق مينائي سواكن وعيذاب على البحر الأحمر مع شبه الجزيرة العربية وحواليها. ويضيف الدكتور إدريس سالم: "وبهذه الخلفية يمكننا فهم أسباب الترحيب والحماسة التي استقبلت بها الطرق الصوفية في السودان في عهد الفونج" (6)
الطرق الصوفية:
وفدت الطرق الصوفية للسودان من عدة مصادر هي الحجاز ومصر وشمال وغرب أفريقيا. وفي المراحل الباكرة كان الأثر الصوفي الحجازي أقوى من سواه وربما يكون مرد ذلك إلى القيمة الروحية للحجاز والأثر الوجداني العميق لذلك على السودانيين.
ووفقاً للمراحل التي أوردناها في صدر ورقتنا هذه على لسان البروفيسور أبو سليم لدخول التصوف في السودان فإن مرحلة دخول الطرق كمؤسسات منظمة ذات تعاليم وأذكار وأوراد جماعية ومشتركة قد سبقتها مرحلة اتجاه فردي في التصوف بهدف مجاهدة النفس وتطهيرها. وحتى الذين انخرطوا في حلقات ومراكز العلم الفقهي ونهلوا من رسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل زاوجوا بين ذلك والتصوّف، فاشتملت تراجمهم وسيرهم على عبارات تعكس هذا المنهج أو الاتجاه مثل (جمع بين العلم والتصوف أو جمع بين الشريعة والحقيقة أو جمع بين علوم الظاهر والباطن).
ساد هذه الاتجاه الفردي في التصوّف المرحلة التي سبقت مجيء الشيخ تاج الدين البهاري أول داعية للطريقة القادرية والتي تشير معظم المصادر إلى أنها أقدم الطرق دخولاً في السودان. وينبغي أن نشير هنا إلى أن السودان خلال تأريخ تأثره بالطرق الصوفية قد شهد نوعين من الطرق أولهما الطرق القديمة أو التقليدية ذات المشيخات والقيادات المتعددة والإدارة اللامركزية. ومن أمثلة هذا النوع الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية.
أما النوع الثاني فهو عبارة عن الطرق ذات القيادة المركزية والمتأثرة بالحركات التجديدية والإصلاحية