قناة

مجمع الكتب📗📘

مجمع الكتب📗📘
18.4k
عددالاعضاء
1,972
Links
132,238
Files
124
Videos
30,815
Photo
وصف القناة
قناة لنشر الكتب في جميع التخصصات. اطلب كتابك 📖 الطلبات على @atlubkitabak قنواتنا ترحب بكم 👇👇👇👇👇 https://t.me/ktabaknachr/37660
الطرق الصوفية


إعداد الدكتور/ علي صالح كرار
لا يختلف اثنان في أن الطرق الصوفية قد شكّلت وجدان معظم أهل السودان وتركت آثاراً متعددة ومتجددة في الحياة السودانية منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي مما أكسب هذه الآثار أهمية خاصة في دراسة الأصول الفكرية للمجتمع والروافد المغذية والمؤثرة في تشكيل الشخصية السودانية وارتباط ذلك بالمتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الحقب التأريخية المختلفة.
ولعلنا نتفق مع البروفيسور الراحل الشيخ حسن قريب الله فيما ذهب إليه من أن التصوّف في السودان يعتبر متنفساً طبيعياً واتجاهاً حتمياً للمزاج الديني والنزعة الروحية التي ظلت تجلل المجتمع السوداني.(1)
تسعى هذه الورقة إلى تناول الطرق الصوفية في السودان من منظور تاريخي مستندة في ذلك إلى فيض من المصادر والمراجع التي تذخر بها دار الوثائق القومية ومكتبات مؤسساتنا العلمية والثقافية. ولن تكتمل جدوى هذا الطرح دون التعرض للسياق الاقتصادي والاجتماعي الذي ظهرت فيه هذه الطرق.
يرى البروفيسور عثمان سيد أحمد أن التطوّر التأريخي للإسلام في السودان يدفعنا إلى القول بأن الصوفية وجدت طريقها إلى السودان عقب انتشار الإسلام ودخوله مباشرة. (2) ويعزز هذا الرأي ما ذهب إليه البروفيسور يوسف فضل حسن من أن الثقافة الفقهية التي وجدت سبيلها إلى السودان منذ وقت مبكر لم تستهو كل السودانيين وفضّل عامة الناس الانخراط في التصوّف. (3)
ويذكر البروفيسور الراحل محمد إبراهيم أبو سليم أن الحركة الصوفية مرت خلال مسيرتها المتطوّرة في السودان بثلاث مراحل، مرحلة أولى: لا تتوفر معلومات عنها لانقطاع الأخبار وهذا بالتأكيد لا يعني أن السودانيين لم يشهدوا في هذه الفترة حركة صوفية، بل قد مارسوا الحياة الصوفية كاملة بما فيها الانتساب إلى الطرق والاشتغال بمذهب أهل الباطن في الحياة. ومرحلة ثانية: أخذت فيها الطرق تظهر وتنمو وتأخذ إتجاهات جديدة على نحو ما نجد في الطريقة الشاذلية التي إهتمت بالجوانب العلمية لأن مؤسسها كان عالماً. ثم جاءت المرحلة الثالثة والتي ظهرت نتيجة لمؤثرات الحجاز القوية والتي بدأت في أواخر القرن السابع عشر الميلادي وشهدت هذه المرحلة ظهور طرق ذات اتجاه تجديدي مثل السمانية والختمية والإسماعيلية، وإهتمت هذه الطرق إهتماماً كبيراً بنشر الدعوة بجانب تعاليمهم ومبادئهم. (4)
ويعتبر البروفيسور حسن مكي أن قيام سلطنة الفونج الإسلامية في عام 1504م على أنقاض مملكة سوبا المسيحية نقطة تحوّل وفاصلة حضارية مهمة بدلالاتها الفكرية والثقافية في اتجاه تكوين المجتمع السوداني الجديد. (5) فقد شجّع سلاطين الفونج توافد العلماء والمتصوفة للبلاد وأجزلوا لهم العطاء والهبات. ويذكر الدكتور إدريس سالم الحسن أن دولة الفونج قد أحدثت منذ عهودها الأولى تحولاً مهماً فيما يتعلق بملكية الأرض. فالسلطان هو المالك الفعلي للأرض غير المستخدمة في مملكة الفونج ويمكنه التصرف فيها كيفما شاء ولمن شاء سواء كان ذلك لفرد أو مجموعة. كما شكّلت التجارة المورد الأهم لعائدات دولة الفونج إذ تميزت عاصمتها سنار بموقع إستراتيجي في ملتقى الطرق بين أثيوبيا وغرب وجنوب السودان مع محاور التجارة عبر نهر النيل وعن طريق مينائي سواكن وعيذاب على البحر الأحمر مع شبه الجزيرة العربية وحواليها. ويضيف الدكتور إدريس سالم: "وبهذه الخلفية يمكننا فهم أسباب الترحيب والحماسة التي استقبلت بها الطرق الصوفية في السودان في عهد الفونج" (6)
الطرق الصوفية:
وفدت الطرق الصوفية للسودان من عدة مصادر هي الحجاز ومصر وشمال وغرب أفريقيا. وفي المراحل الباكرة كان الأثر الصوفي الحجازي أقوى من سواه وربما يكون مرد ذلك إلى القيمة الروحية للحجاز والأثر الوجداني العميق لذلك على السودانيين.
ووفقاً للمراحل التي أوردناها في صدر ورقتنا هذه على لسان البروفيسور أبو سليم لدخول التصوف في السودان فإن مرحلة دخول الطرق كمؤسسات منظمة ذات تعاليم وأذكار وأوراد جماعية ومشتركة قد سبقتها مرحلة اتجاه فردي في التصوف بهدف مجاهدة النفس وتطهيرها. وحتى الذين انخرطوا في حلقات ومراكز العلم الفقهي ونهلوا من رسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل زاوجوا بين ذلك والتصوّف، فاشتملت تراجمهم وسيرهم على عبارات تعكس هذا المنهج أو الاتجاه مثل (جمع بين العلم والتصوف أو جمع بين الشريعة والحقيقة أو جمع بين علوم الظاهر والباطن).
ساد هذه الاتجاه الفردي في التصوّف المرحلة التي سبقت مجيء الشيخ تاج الدين البهاري أول داعية للطريقة القادرية والتي تشير معظم المصادر إلى أنها أقدم الطرق دخولاً في السودان. وينبغي أن نشير هنا إلى أن السودان خلال تأريخ تأثره بالطرق الصوفية قد شهد نوعين من الطرق أولهما الطرق القديمة أو التقليدية ذات المشيخات والقيادات المتعددة والإدارة اللامركزية. ومن أمثلة هذا النوع الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية.
أما النوع الثاني فهو عبارة عن الطرق ذات القيادة المركزية والمتأثرة بالحركات التجديدية والإصلاحية
التي شهدها العالم الإسلامي في الفترة من أواخر القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر. ويندرج تحت هذا النوع الطريقة السمانية والطريقة التجانية والطرق المتأثرة بمدرسة السيد أحمد بن إدريس وهي الختمية والإسماعيلية والرشيدية والأحمدية الإدريسية.
أولاً الطرق القديمة:
الطريقة القادرية:
تعتبر الطريقة القادرية التي تُعرف أيضاً بالجيلانية من أوسع الطرق انتشاراً في العالم الإسلامي وتُنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (470- 561ه/ 1077- 1166م) وقد ولد بجيلان أو كيلان بإقليم طبرستان بإيران وتوفي ودفن ببغداد. وكان الشيخ عبد القادر عالماً ضليعاً يفتي على مذهب الإمامين الشافعي وابن حنبل. وصحب أحد شيوخ التصوّف هو الشيخ حماد الدباس وأخذ عنه الطريق. وقد انتشرت تعاليم الشيخ عبد القادر الجيلاني بواسطة تلاميذه في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي. وكان من بين هؤلاء التلاميذ الشيخ تاج الدين البهاري الذي قدم السودان في نحو عام (985ه/1577م) من بغداد عن طريق الحجاز إثر دعوة من التاجر السوداني داؤود بن عبد الجليل، وأقام معه في وادي شعير نحو سبع سنوات. وقد أعطى الطريق خلال هذه الفترة لعدد من المريدين منهم: محمد الهميم بن عبد الصادق، جد الصادقاب، وبان النقا الضرير جد اليعقوباب، والشيخ عجيب المانجلك شيخ العبدلاب، وتاج الدين ولد التويم، جد الشكرية، وحجازي بن معين، باني أربجي ومسجدها. ويذكر ابن ضيف الله أن الشيخ البهاري قد ذهب إلى فأخذ عنه جماعة منهم الفقيه عبد الله الحمال جد الشيخ حمد الترابي. (7)
وفي تلك الفترة طلب الشيخ تاج الدين البهاري من الشيخ عبد الله بن دفع الله العركي تلميذ الشيخ عبد الرحمن بن جابر، وهو ممن ولاهم الشيخ عجيب، شيخ العبدلاب، القضاء أن يسلك طريق القوم ولكنه رفض متعللاً بأنه لن يخلط اشتغاله بالفقه والعلم شيئاً آخراً. وتذكر بعض المصادر أن رفض الشيخ العركي للتسليك ربما يرجع إلى أن الشيخ البهاري قال لطالبي السلوك "سلوك الطريق أو البيعة بالذبح" ورأى الشيخ العركي أن الله لم يأمر بالتهلكة لذلك أحجم عن البيعة. (8)
غير أن الشيخ العركي لما رأى المكانة الرفيعة التي تبوأها حيران الشيخ البهاري بين الفونج والعرب، وما اشتهروا به من كرامات بين عامة الناس، آثر أن ينخرط في هذه الطريقة ولحق بالشيخ البهاري بالحجاز، فلما علم أن الأجل قد وافاه سلك الطريق على خليفته، وعاد إلى السودان مرشداً للناس. وقد كتب لفرع القادرية الذي أسسه الشيخ عبد الله العركي ببلدة أبي حراز النمو والازدهار أكثر من فروع حيران الشيخ تاج الدين. وتبوأت بلدة أبو حراز مكانة مرموقة بين قرى ومدن السودان تبعاً لمكانة ومقام شيوخها في العلم والتصوّف. وتواصل ازدهار الفرع العركي في عهد الشيخ دفع الله المصوبن ابن الشيخ محمد بن إدريس واستوعبت مدرسته للعلم طلاباً من كل أرجاء السودان وأصبحت القرية قبلة للمريدين من كل قبائل السودان مما جعلها أشبه بالمدينة إذ أنها استوعبت الرفاعيين والجعليين والشايقية والدناقلة والعبدلاب وغيرهم وسادت بينهم أخوة الطريق ورابطة الدين التي تسمو فوق كل أنتما أو ولاء جهوي أو عرقي.
ظلت بلدة أبو حراز تضطلع بهذه الرسالة الروحية حتى بعد زوال دولة الفونج نتيجة للغزو التركي المصري في عام 1821م. وفي خلال فترة المهدية تم إجلاء العلماء والمشايخ إلى أمدرمان على نحو ما أثبته المؤرخون. غير أن بلدة أبو حراز عادت بعد المهدية تؤدي دورها التأريخي الموروث. ورغم انتشار التعليم الحديث مشايخ الطريقة القادرية العركية بأبي حراز وطيبة وأم درمان وغيرها من مدن السودان يؤدون دورهم في الإرشاد والتوجيه وتسليك المريدين. (9)
يذكر ابن ضيف الله في كتابه الطبقات أن فترة الفونج كانت قد شهدت تأسيس فروع أخرى للطريقة القادرية من ذلك فرع الشيخ إدريس ود الأرباب الذي ينتمي إلى قبيلة المحس وقد ولد ونشأ وتوفي بالعيلفون وله قُبّة تعتبر من معالم المنطقة. وقد تمتع الشيخ إدريس بنفوذ واسع وسط سلاطين الفونج وشيوخ العبدلاب وقام بأدوار مقدرة في حل الخصومات وفض النزاعات بين السلاطين. (10)
ومن فروع القادرية كذلك الفرع الذي أسسه الشيخ حسن ود حسونة (ت. 975 ه/1665م) بقرية ود حسونة بمنطقة أبي دليق. وعرفت منطقة كترانج على النيل الأزرق الطريقة القادرية على يد الشيخ المضوي بن عبد الدائم حفيد الشيخ عيسى بن بشارة الأنصاري مؤسس هذه القرية ومعهدها الديني. (11)
استمرت هذه الفروع المستقلة للطريقة القادرية في نشر تعاليمها وظهرت خلال القرن التاسع عشر والفترة التي تلته فروع مستقلة أخرى منها فرع الشيخ إبراهيم الأمين الكباشي (1201-1286ه/1787-1870م) بقرية الكباشي شمال مدينة الخرطوم بحري. ورغم نفوذ الشيخ الكباشي وسط قبيلة الكبابيش وكثرة أتباعه بينهم إلا أنه لا يمت لهذه القبيلة بصلة عرقية والراجح أنه ينتمي إلى أسرة العركيين. وقد سلك الشيخ الكباشي الطريق على يد الشيخ طه الأبيض البطحاني ويتصل سنده الصوفي بالشيخ عبد الله العركي. (12)
عاصر الش
يخ الكباشي عدداً من شيوخ وزعماء الطرق المشهورين في السودان وكانت تربطه بهم صلات طيبة وعلائق حميمة ومنهم على سبيل المثال السيد الحسن الميرغني ابن السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الختمية والشيخ أحمد الجعلي مؤسس فرع القادرية بكدباس والشيخ العبيد ود بدر مؤسس فرع القادرية بأم ضواً بان. (13)
ذكرنا أن من فروع القادرية المؤثرة ذلك الذي أسسه الشيخ أحمد الجعلي بكدباس. وينتمي الشيخ الجعلي إلى الحسبلاب أحد فروع السريحاب من الجعليين. وقد ولد بالمخيرف بمنطقة بربر في عام 1818م وقد سلك الطريق على صوفي فارسي الأصل هو الشيخ عبد الرحمن الخراساني، وكان قد زار مدينة بربر في عام 1865م خلال فترة الحكم التركي المصري. وعند فتح مدينة بربر بواسطة قوات المهدية في عام 1884م استدعى الشيخ الجعلي إلى مدينة أم درمان حيث مكث حتى نهاية الدولة المهدية وعاد بعدها إلى قريته كدباس حيث توفي ودفن في عام 1902م وما زال مركزه مزدهراً حتى يومنا هذا. (14)
ولا بد لنا من أن نشير كذلك إلى فرع البادراب الذي أسسه الشيخ العبيد ود بدر (1226-1302ه/ 1811-1884م) وكان مقر هذا الفرع أول الأمر بقرية النخيرة التي أوقد بها الشيخ العبيد نار القرآن في عام (1264ه/1847م) وأنشأ بها مسجده المعمور والمشهور حالياً.
وتذكر المصادر أن الشيخ العبيد قد عمل على تطوير الطريقة القادرية وأدخل الروح الاحتفالية الجماعية لكل فروع القادرية بدلاً عن انفراد كل مركز بنفسه وذلك خلال الاحتفال بالمواسم والأعياد والمولد النبوي والإسراء والمعراج والحوليات وتنصيب خليفة جديد. وعند قيام المهدية بقيادة الإمام المهدي انشغل الشيخ العبيد بنصرتها حتى وفاته في عام 1884م وخلفه ابنه الخليفة أحمد واستمر الفرع مزدهراً تحت قيادة وإشراف البادراب حتى يومنا هذا.(15)
الطريقة الشاذلية:
تنسب الطريقة الشاذلية إلى الشيخ الضرير أبو الحسن الشاذلي وهذا هو اسم الشهرة واسمه الحقيقي علي بن عبد الله بن عبد الجبار. وقد ولد بالمغرب في عام (593ه/1196م) ثم هاجر إلى تونس ثم إلى مصر، حيث أقام بالإسكندرية وحقق نجاحاً عظيماً. وقد وجدت أحزابه وأوراده رواجاً ليس بين مريديه وأتباعه فحسب بل بين أتباع ومريدي الطرق الأخرى. ومن أشهر أحزاب الشاذلية حزب البحر. وقد اعتبر الدكتور زكي مبارك هذا الحزب من أفضل الأحزاب معنى ولفظاً فهو في لفظه تحفة فنية قليلة النظائر وهو في معناه قوة روحية وعقلية نادرة المثال. توفي الشيخ الشاذلي سنة (656ه/1258م) في طريقه إلى الحج ودفن في حميثراء بصحراء عيذاب. (16)
ويروى أن الطريقة الشاذلية دخلت البلاد السودانية قبل عصر الفونج أي أنها سابقة للقادرية. وأن ذلك قد تم على يد الشريف حمد أبي دنانة صهر الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات في القرن التاسع الهجري الموافق الخامس عشر الميلادي، وأن هذا العالم قد استقر في سقادي غرب المحمية الحالية بولاية نهر النيل. (17)
ومن أشهر الذين أسهموا في نشر تعاليم الطريقة الشاذلية بالسودان الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن وكان قادرياً في بداية أمره. ويقال أن سبب تحوله من القادرية هو تشددهم وغلوّهم في الخشونة وإظهار الفقر على خلاف الشاذلية الذين كانوا يميلون إلى التسامح وإظهار النعمة. (18)
ومن رموز الشاذلية بالسودان الشيخ حمد بن المجذوب، ثم جاء بعده حفيده محمد المجذوب بن قمر الدين، الذي سافر إلى مكة وأقام في المدينة وأجيز من الشيخ السويدي ثم جاء إلى سواكن عام 1248ه/1832م، ومنها إلى الدامر حيث استقر ونشر أوراد الشاذلية بعد أن دمجها في أوراد طريقته المجذوبية التي أصبحت رافداً من الروافد الأساسية لنقل تعاليم الشاذلية للسودان. (19)
انتقلت مؤثرات الشاذلية كذلك عن طريق الشيخ أحمد الطيب البشير مؤسس الطرقة السمانية بالسودان، وكذلك كافة الطرق المنبثقة عن المدرسة التي أسسها العالم والصوفي المغربي السيد أحمد بن إدريس وعلى رأسها الطريقة الختمية والإسماعيلية والأحمدية الإدريسية.
الطريقة السمانية:
تُنسب هذه الطريقة للشيخ المغربي محمد عبد الكريم السمان (ت-1189ه)، الذي جمع بين ثقافة المغرب والحجاز وأخذ الطريقة الخلوتية عن الشيخ مصطفى البكري والنقشبندية عن الشيخ بهانشاه النقشبندي، وذاعت شهرته فقصده كثير من التلاميذ وأخذوا عنه ومن هؤلاء الشيخ أحمد الطيب البشير، الذي جدد عليه طرقاً سبق أن أجيز فيها ثم لازمه وأخذ عنه الطريقة الخلوتية، والقادرية، والنقشبندية، والأنفاسية، والموافقة سلوكاً وتحقيقاً وأجازه الشيخ السمان بجميع طرقه وأمره بالعودة إلى بلاده.
تمكن الشيخ أحمد الطيب بفضل علمه وحكمته من استقطاب العديد من المريدين، وتميزت طريقته بالتنظيم الدقيق والكيان المركزي والمشيخة الموحدة. وقد حرر الشيخ أحمد الطيب التصوّف في السودان من كثير من أوجه الغلو والممارسات الخاطئة، وأولى الجانب الفكري والفلسفي للتصوّف عناية خاصة. ورغم النجاح والانتشار الواسع الذي حققته هذه الطريقة انقسمت بعد وفاة مؤسسها في عام 1824م إلى ثلاثة فروع: تزعم أحد
ها الشيخ محمد شريف نور الدائم (ت. 29 شوال 1268ه/ 7 أغسطس 1851م)، واعتمد على صلة الرحم التي تربطه بمؤسس الطريقة في إثبات أحقيته. وأسس الشيخ أحمد البصير فرعاً مستقلاً وأظهر ميله للشيخ القرشي ود الزين، الذي استقل بدوره بالفرع الثالث والأخيران اعتمدا على السند الصوفي المباشر. ومهما كانت أدلة كل طرف من حيث الوراثة أو أحقية السند فإن هذه الانقسامات قد أضعفت الطريقة وأضحت تفتقر إلى الكيان المركزي والقيادة والمشيخة الواحدة التي كانت تتميز بها وأصبحت شبيهة بالطرق التقليدية المتعددة المشيخات والكيانات. (20)
مدرسة السيد أحمد بن إدريس:
ولد السيد أحمد بن إدريس بن محمد بن علي وسط أسرة دينية بقرية ميسور بالقرب من مدينة فاس بالمغرب في سنة 1163ه/1750م، وهو من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله المحض من السادة الأدارسة المقيمين بالمغرب، والذين يلحقون نسبهم بالسيد الحسن بن علي رضي الله عنهما. وبعد أن حفظ القرآن الكريم وقرأ كثيراً من المتون ونال قسطاً وافراً من العلوم انتقل وهو في العشرين من عمره إلى فاس حيث أخذ عن علمائها في كافة علوم الظاهر وزاوج بينها وبين التصوّف.
وتحدثنا المصادر عن نشاطه الصوفي في المغرب، والمناظرة التي جرت بينه وبين علماء المغرب في فاس، وكيف أنه قرر الرحيل إلى المشرق حيث وصل ميناء الإسكندرية، ثم قام بزيارة إلى صعيد مصر حيث اختار قرية الزينية مقراً ٌقامته ومركزاً لنشاطه، وقد زار السيد أحمد بن إدريس الصعيد مرة أخرى عقب انتقاله للإقامة بمكة التي وصلها في أواخر سنة 1213ه/1799م، حيث باشر نشاطه، ووفد إليه التلاميذ وأخذوا عنه وساعدوا في نشر تعاليمه. وقد واجه معارضة من علماء مكة عندما جاهر بآرائه الجريئة في الرأي والتقليد مما دفعه للهجرة إلى اليمن حيث استقر بقرية صبيا في منطقة عسير في سنة 1245ه/1830م وباشر نشاطه وتوافد عليه الناس من أنحاء العالم الإسلامي.
توفي السيد أحمد بن إدريس ودفن بصبيا في الحادي والعشرين من رجب سنة 1253ه الموافق 21 أكتوبر 1837م.
وكما ذكرنا فإنه كان قد أقام بمكة فترة أربعة عشر عاماً، قبل انتقاله إلى اليمن وأسس خلالها مدرسة للعلم والتصوّف استقطبت أعداداً مقدرة من التلاميذ من سائر أنحاء العالم الإسلامي، ومن الذين أسهموا في وصول تعاليمه للسودان ونشرها به السيد محمد عثمان الميرغني، والسيد إبراهيم الرشيد، والسيد محمد المجذوب، والسيد عبد الله أبو المعالي، والسيد مكي عبد العزيز وغيرهم. (21)
لم يؤسس السيد أحمد بن إدريس طريقة صوفية بالمعنى المتعارف عليه للطريقة، وإنما أسس مدرسة تميزت بالإيجابية والاهتمام بالدعوة والفكر، ولم يكن همها مقصوراً على تعليم الأوراد والأذكار والحث على الخلوات والاعتكاف والبعد عن الناس والانقطاع عنهم. إذ كان السيد ابن إدريس يحث أتباعه على التقوى، التي يراها لب الدين وروحه وسبب الرحمة، ويحضهم على الموازنة بين الدنيا والآخرة. وقد أولى السيد ابن إدريس أمر الدعوة عناية خاصة، فنجده يشجع كبار تلاميذه لنشر تعاليمه في المناطق التي تقطنها القبائل والجماعات الوثنية وغير المسلمة، كبعض مناطق شرق أفريقيا وغربها، لاعتقاده بأن الدور الذي سيقومون به في نشر الإسلام بينها سيكون عظيم النفع وكبير الفائدة.
لم يشر السيد أحمد بن إدريس قبل وفاته إلى مسألة خلافته، أو زعامة المدرسة الإدريسية من بعده فواجه أتباعه موقفاً شبيهاً بذلك الذي واجه الصحابة عقب وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأدى ذلك إلى خلاف وانشقاق بين الأتباع والمريدين وانتهى بتأسيس كبار التلاميذ لطرقهم الخاصة المستقلة، فجاءت السنوسية في شمال أفريقيا. والختمية والمدنية التي أسسها السيد حسن ظافر المدني، بينما أسس أبناء السيد ابن إدريس أنفسهم الطريقة الأحمدية الإدريسية، وأنشأت أسرة السيد إبراهيم الرشيد الطريقة الرشيدية. (22)
الطريقة الختمية:
هي الطريقة التي أسسها السيد محمد عثمان الميرغني الشهير بالختم عقب وفاة أستاذه السيد ابن إدريس وكان يعتبر من أقرب تلاميذه إليه.
ولد السيد محمد عثمان الميرغني بالطائف في قرية السلامة في سنة (1208ه/1793م) في أسرة عريقة اشتهرت بالعلم والصلاح. فجده لأبيه هو السيد عبد الله المحجوب (ت. 3-1792م) من كبار الصوفية ومؤسس الطريقة الميرغنية.
أخذ السيد محمد عثمان الميرغني الطريقة النقشبندية، والجنيدية، والقادرية، والشاذلية، عن مشايخ عديدين إضافة إلى طريقة جده الميرغنية، قبل أن ينتهي به الأمر إلى الأخذ عن السيد أحمد بن إدريس صاحب القدح المعلّى في تربيته الصوفية ودفعه في مجال الدعوة. وقام السيد محمد عثمان الميرغني موفداً من شيخه ابن إدريس برحلات دعوية إلى السودان، وصعيد مصر، والحبشة، وأرتريا، وكان له من العمر ستة وعشرون عاماً. ورغم أن العديد من المصادر تشير إلى أن زيارة السيد محمد عثمان الميرغني الأولى للسودان قد تمت بتوجيه من شيخه ابن إدريس إلا أن الرسائل المتبادلة بينهما تثبت أن المبادرة قد جاءت من السيد الميرغني(23).
وصل السيد محمد عثم
ان الميرغني إلى السودان قبيل الغزو التركي المصري في وقت كانت فيه دولة الفونج تعاني الحروب وعدم الاستقرار الإداري والسياسي.
وقد نجح السيد الميرغني في استقطاب العديد من الأتباع في مناطق الكنوز والسكوت والمحس والدناقلة. ومن أبرز أتباعه بمنطقة دنقلا الشيخ صالح سوار الذهب، الذي صحبه في رحلته من الدبة إلى كردفان. ومن الذين استمالهم بالدبة الشيخ صالح بن عبد الرحمن بن محمد بن حاج الدويحي والد السيد إبراهيم الرشيد، وقد قدم من قريته دويم ود حاج لمقابلة السيد الميرغني.(24)
سافر السيد محمد عثمان الميرغني من الدبة إلى بارا في قافلة كبيرة يقودها تلميذ الميرغني الخليفة محمد صالح شادول، وأقام بكردفان التي وصلها في شوال 1231ه الموافق سبتمبر 1816م مدة ثلاث سنوات، قام خلالها بزيارة سنار حاضرة الفونج. وشهدت فترة إقامته ببارا زواجه من السيدة رقية بنت جلاب، التي أنجبت ابنه محمد الحسن الميرغني الشهير بالحسن أبو جلابية، كما أجاز الميرغني عدداً من الأتباع من أشهرهم السيد إسماعيل الولي (1792-1863م)، وقد أُعجب الميرغني بعلمه فعينه مرشداً غير أنه قد أسس في فترة لاحقة طريقة مستقلة عُرفت بالإسماعيلية.(25)
شملت زيارات السيد محمد عثمان الميرغني الدعوية مناطق الجعليين حيث مكث بشندي، والمتمة، واستقطب العديد من الأتباع وشيَّد بعض المساجد.
وتذكر المصادر أن السيد محمد عثمان الميرغني قد رجع إلى الحجاز ثم انضم لأستاذه ابن إدريس باليمن، وبقى معه حتى وفاته في عام 1837م. وعقب الصراع الذي نشب حول الخلافة أسس كبار تلاميذ ابن إدريس طرقاً خاصة بهم، فأسس الميرغني الختمية وأقام لها فروعاً في أقاليم مختلفة من الحجاز، واليمن، وشمال وشرق أفريقيا. وأرسل ابنه الكبير محمد سر الختم إلى حضرموت باليمن، والحسن إلى سواكن بشرق السودان، حيث استمال إليه البني عامر، والحلنقة، والحباب، الذين تأثروا قبل ذلك بوالده. كما سافر السيد الحسن إلى سنار، وكردفان، وشمال السودان، وحقق نجاحاً كبيراً وسط الشايقية والبديرية والدناقلة.
توفي السيد محمد عثمان الميرغني في سنة (1268ه/1852م) وقام ابنه السيد محمد الحسن بمواصلة جهوده في نشر الطريقة بالسودان وحقق نجاحاً واسعاً، وأصبح محبوباً لدى معظم شيوخ وأتباع الطرق الصوفية مما أهّله للإسهام في تحقيق قدراً من التقارب بينها. ولم يغادر السيد الحسن السودان منذ أن عيّنه والده ممثلاً له في السودان وحتى وفاته في سنة (1286ه/1869م)، حين دُفن بكسلا وخلفه ابنه السيد محمد عثمان الميرغني (1819-1886م). ويُطلق عليه الصغير والأقرب تمييزاً له عن جده. وعقب وفاة السيد محمد عثمان الأقرب ودفنه بمصر في سنة 1886م. خلفه ابنه السيد علي الميرغني الذي ولد بمساوي بمنطقة الشايقية في شمال السودان في عام 1297ه/1880م وكان حتى وفاته ودفنه بمسجده بمدينة الخرطوم بحري في اليوم الرابع والعشرين من ذي القعدة (1387ه/1968م) من أبرز الزعماء الدينيين والسياسيين في السودان. (26)
الطريقة الإسماعيلية:
تُنسب هذه الطريقة إلى الشيخ إسماعيل الولي وهو بديري دهمشي هاجرت أسرته من منطقة دنقلا إلى كردفان. وقد ولد الشيخ إسماعيل بالأبيض في سنة (1207ه/1792م) وبها نشأ وحفظ القرآن واشتغل بالتدريس وبها التقى بالسيد محمد عثمان الميرغني وأخذ عنه تعاليم المدرسة الإدريسية والطريقة الختمية. وفي عام 1241ه/1826م أي بعد تسع سنوات من أخذه عن السيد الميرغني أسس الشيخ الولي طريقة مستقلة عُرفت بالإسماعيلية، ومع ذلك ظل على وفائه لأستاذه الميرغني وانتشرت طريقته بين البديرية، وسكان الأبيض. وقام هو وتلاميذه بنشاط دعوي واسع لنشر الإسلام في مناطق جبال النوبة. توفي الشيخ الولي بالأبيض وله قُبّة تعد من معالم المدينة وقد خلفه في رئاسة الطريقة ابنه السيد محمد المكي، الذي اشتهر بالتأليف في مسائل الطريقة والسالكين والفيض الإلهي والمدح والأحاديث. وفي عهده انتشرت الطريقة من مناطق كوستي والنيل الأبيض والجزيرة وأمدرمان.(27)
الطريقة التجانية:
تُنسب هذه الطريقة إلى السيد أحمد بن محمد بن مختار المشهور بأحمد التجاني وهو من أشهر متصوفة وعلماء القرن التاسع عشر في أفريقيا. ولد بعين ماضي بالمغرب في سنة 1737م. وفي سنة (1186ه/1772م) توجه لأداء فريضة الحج، وفي المدينة أخذ الطريقة السمانية الخلوتية عن الشيخ محمد عبد الكريم السمان كما أخذ أثناء وجوده بمصر الطريقة الخلوتية عن الشيخ محمود الكردي.
دخلت الطريقة التجانية السودان عن طريق غرب أفريقيا على يد عالم من الهوسا هو عمر جانبو الذي أخذ الطريق عن الشيخ محمد الصغير بن علي أحد تلاميذ الشيخ التجاني. وقام بنشر تعاليم الطريقة بدارفور وكردفان. وتذكر المصادر أن هذا الشيخ قد عاش بالفاشر في ضيافة السلطان علي دينار وذلك عقب نهاية الدولة المهدية في عام 1880م، ويرى أن علاقته قد ساءت مع السلطان علي دينار مما اضطره إلى الهروب إلى الأبيض في عام 1908 ومنها إلى أمدرمان ثم الحجاز حيث توفي ودفن بمكة.(28)
غير أن الفضل في نش