ظاهرة التقريظ عند الكتاب الحضارم
أ.د. مسعود عمشوش
من أهم جوانب النص الأدبي التي لم تحظ باهتمام كاف قبل ثمانينيات القرن العشرين مجموعة العناصر المتناثرة حول متن النص أو داخله أو خارجه، وذلك لتسمّيه أو تقدّمه أو تفتتحه أو تهديه أو تعلق عليه أو توضحه أو تختتمه أو تصنفه أو تروّج له. وإذا كان بعض النقاد قد تناول هذا الجزء أو ذاك من تلك العناصر عند قيامه بتحقيق بعض النصوص، فإن أول من خصص دراسة طويلة وشاملة لها هو الناقد الفرنسي جيرار جينيت الذي أسهم كذلك في وضع مناهج تحليل السرد والنصوص الأدبية بشكل عام في كتبه: (خطاب الحكاية) سنة 1972، و(جامع النص) سنة 1979، و(أطراس) 1982، و(العتبات) سنة 1987. في مقدمة هذا الكتاب الأخير يلاحظ جينيت أن من النادر أن يقدم النص/المتن نفسه عاريا بدون مرفقات أو مكملات لغوية وغير لغوية تحيط به أو تتداخل معه أو تنفصل عنه لتمكنه من تحديد هويته والنهوض به كبنية دلالية مستقلة في شكل كتاب. وقد اختار جينيت أن يطلق على تلك المكملات (النص الموازي: le paratexte)، وعرفه قائلا إنه "ما يصنع به النص من نفسه كتابا ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه وعلى الناس بشكل عام".
وانطلاقا من موقع النص الموازي وهوية منتجه ووظيفته استطاع جيرار جينيت أن يضع تصنيفا دقيقا لمختلف أنواع النص الموازي، حيث ميّز بين النص الموازي الداخلي الذي يقع ضمن الكتاب، مثل العنوان والتقديم والمقدمة والفهرس والهوامش والإهداء، وبين النص الموازي الذي يقع خارج الكتاب كالمقابلة والدعاية. وميَّز كذلك بين النص الموازي الذي ينتجه المؤلف نفسه كالإهداء والمقدمة والمقابلة، وبين النص الموازي الذي يضعه الناشر كالدعاية والنبذة والغلاف الأخير. وفرّق جينيت أيضا بين النص الموازي الرسمي الذي يتحمل المؤلف أو الناشر مسؤوليته والنص الموازي غير الرسمي الذي يضعه شخص آخر (مستكتب)، قد يكون ناقدا أو فنانا أو صحفيا أو مجرد صديق.
ومن هذا النوع الأخير من النصوص الموازية: التقديم الذي يضعه أحد أصدقاء المؤلف أو النقاد، بطلب من المؤلف نفسه أو دار النشر. وفي الأدب العربي القديم ظهرت نوع من التقديمات النصية المستكتبة يطلق عليه: التقريظ. فمنذ العصر العباسي حرص بعض الكتاب العرب على عرض مؤلفاتهم على أصدقائهم وزملائهم الكتاب بغرض تقديم ما كتبوا والشهادة بجودته وحسنه وفائدته والتصديق عليه مع التغاضي عن عيوبه، وتجنب الإشارة إلى أي ضعف فيه، وأطلقوا على هذا النوع من التقديم: التقريظ. وفي اللغة تعني كلمة التقريظ: مدح الكتاب أو المؤلف كيفما كان، وفي (القاموس المحيط)، "التقريظ: مدح الإنسان وهو حي بحق أو باطل".
وعادة يسعى كاتب التقريظ إلى تقديم نبذة موجزة عن المؤلف، وإضاءة النص وعرض أهم الأفكار والرؤى التي يطرحها، والتأكيد على أهميتها، والإشارة إلى أسباب الإعجاب بها. وفي القرون المتأخرة انتشرت ظاهرة كتابة التقريظ، نظما ونثرا، في الأدب العربي بشكل عام، وعند الكتاب الحضارم بشكل خاص.
فمنذ القرن الماضي العشرين بات كثير من الكتاب الحضارم يحرصون على استكتاب صديق أو زميل للكتابة عن مؤلفهم. وبينما فضّل بعضهم تسمية ما يكتب عن نصوصهم: (تقريظا) رأى بعضهم أن يطلق عليه (تقديما). ففي عام 1355هـ نشر عبد الرحمن بن عبيد اللاه السقاف كتيبا بعنوان (في تحقيق الفرق بين العامل بعلمه وغيره وما يتصل بذلك من حد الولاية وحكم الإلهام)، نجد في صفحاته الأولى تقريظا بقلم العلامة أحمد المطاع. وفي عام 2014 حرص الأستاذ خالد محمد باعافية على افتتاح كتابه (لمحات من تاريخ مقاومة ابن عبدات في حضرموت) بتقريظ كتبه له الأستاذ المؤرخ جعفر محمد السقاف. أما الباحث علي أنيس الكاف فقد اختار المنصب علي عبد القادر الحبشي ليقدم له كتابه (مختارات من كتابات شيخ الصحافة الحضرمية محمد بن هاشم 2008)، واختار الشيخ عبد الله صالح الكثيري ليقدم كتابه (الحركة الإصلاحية في حضرموت 2012).
ومن الكتاب الحضارم الذين فضلوا استخدام مصطلح التقريظ على التقديم: الباحث الدكتور محمد أبوبكر باذيب الذي نتناول في السطور الآتية ظاهرة التقريظ في كتابه (أحمد عمر بافقيه من رواد الصحافة العربية في القرن العشرين)، الصادر عن دار الفتح للدراسات والنشر عام 2008، والذي سبق أن قدمه الأستاذ نجيب يابلي في صحيفة (الأيام).
يقع الكتاب في 717 صفحة من الحجم الكبير، كرس المؤلف الست والأربعين الصفحة الأولى منها لخمسة تقريظات، كتب الأول منها علي عبد الكريم العبدلي (سلطان لحج سابقاً)، والتقريظ الثاني الذي أعده الأستاذ المؤرخ جعفر محمد السقاف، والتقريظ الثالث أعده الدكتور محمد علي البار، والتقريظ الرابع كتبه حامد أحمد مشهور الحداد، وكتب التقريظ الخامس الدكتور عمر عبدالله بامحسون. وفي هوامش تلك الصفحات وضع المؤلف لكل من كتب تقريظا لنصه نبذةً ضافية؛ فالنبذة التي كتبها للأستاذ جعفر محمد السقاف تقع في صفحة كاملة.