بقلم: دكتور المحقق محمد عزير شمس
بدأَت حركةُ نَشْر التُّراث العرَبِيِّ في الهند مِن أواخر القرن الثَّامن عشر الميلادي، عندما أُنشئت مطابِعُ في مدينة "كلكتا" لطباعة الكتب على الحروف، وكان من أوائل ما نُشر فيها: "السراجية في الفرائض" "للسجاوندي" عام 1793، و"الهداية" "للمرغيناني" عام 1807، و"الفصول الأبقراطية" عام 1832، و"ألف ليلة وليلة" عام 1839 - 1842، و"فِهْرِست الطوسي" عام 1853، و"تاريخ الخلفاء" "للسيوطي" عام 1856، و"الإصابة في تمييز الصحابة" "لابن حجر" عام 1856، وغيرها من أمَّهات المصادر في مُختلِف الفنون، والذين قاموا بتصحيحها والتعليق عليها علماء أجِلاَّء منهم: "مولوي كبير الدين أحمد"، و"مولوي سليمان غلام مخدوم"، و"مولوي عبدالله"، و"مولوي عبدالحق"، و"غلام قادر"، و"محمد وجيه عبدالحق"، وغيرهم.
ثم أُنشئت مطابِعُ عديدةٌ في مدن أخرى بالهند تطبع الكتب على الحجر، مثل مطبعة "نَوَل كِشور" في "لكنو"، و"المطبع الصديقي" في "بوفال"، و"المطبع الشاهجهاني" في "بوفال"، و"المطبع الفاروقي" في "دلهي"، و"المطبع الأنصاري" في "دلهي"، و"المطبع الأحمدي" بـ"دلهي"، و"المطبع النظامي" في "كانفور"، و"المطبع الخليلي" في "آره"، و"مطبعة دار الكتاب والسُّنة" في "أمرتسر"، و"مطبعة نخبة الأخبار" في "بومبي"، وغيرها.
ويَطُول بنا القول لو استعرَضْنا أهمَّ مطبوعاتِها؛ فلِكُلِّ مطبعةٍ منها دورٌ بارز في نشر الكتب العربية الإسلاميَّة في علوم الشريعة، واللُّغة، والأدب، والتاريخ، والطِّب، والفلسفة، وغيرها، وكان يقوم بتصحيحها ومراجعتِها علماء كبارٌ يعتنون بتصحيح المَتْن والتَّدقيق فيه، ويَكتبون في الحواشي تعليقاتٍ تُجلِّي غوامِضَ الكتاب، وتَشرح مَضامينَه، وتحلُّ مشكلاتِه.
وقد اهتمَّت دائرة المعارف النظامية (ثم العُثمانية) في "حيدرآباد" منذ إنشائها سنة 1308 بانتقاء أهمِّ المصادر في مختلِف الفنون، وحصر مَخطوطاتِها وجمع مصوَّراتِها، ثُمَّ القيام بتحقيقها ونشرها بواسطة لَجْنة علميَّة كان يرأسها الأستاذ محمد هاشم النَّدوي، وهو الذي ألَّف "تذكرة النَّوادر"، ووضع برنامجًا للنشر، وجمع العلماء والباحثين من الهند وخارِجَها، واتَّصل بالمستشرقين والمهتمين بالتُّراث العربي.
لقد كانت دائرةُ المعارف أوَّلَ مؤسَّسةٍ عِلمية في الشرق عُنِيَت بنشر عيون التُّراث التي لا تَخلو منها مكتبةٌ عربية في العالَم، ومنشوراتُها موضِعُ ثقةٍ واحترام في الشَّرق والغرب، ولا يَستغني عنها مُحقِّقٌ أو باحث في مَجال الدِّراسات الإسلامية والعربية، وشُهرتُها تُغني عن التفصيل.
ننتقل الآن إلى الجهود الفرديَّة في هذا المَجال، فقد اشتهر في الهِند علماء ومُحقِّقون اشتغلوا بتحقيق التراث العربي، ووقفوا حياتَهم لِنَشره، وغلب عليهم حبه وخدمته، فبذلوا في سبيله كلَّ غالٍ ونفيس، وهؤلاء يزيد عددهم على خمسين عالِمًا، حسب ما تتبَّعتُ آثارهم وتحقيقاتِهم، منهم من اتَّخذ لنفسه منهجًا مستقِلاًّ في التحقيق دون التأثُّر بِمَناهج المستشرقين والعرب، ومنهم من اتَّبع منهج المستشرقين وأضاف إليه بعضَ الأمور، ومنهم من تخرَّج في الجامعات العربية، واتبع منهج التحقيق المتَّبَع فيها.
ويُمكن تقسيمُهم أيضًا إلى مجموعاتٍ حسب العلوم والفنون التي اهتمُّوا بِمخطوطاتِها، فمنهم من اهتمَّ بعلوم الشريعة من الحديث والتفسير والفقه، ومنهم من عُنِيَ عنايةً خاصَّة باللُّغة والأدب والشِّعر، ومنهم من حقَّق كتب التاريخ والفلسفة والطِّب وغيرها.
ولا يُمكن لنا في هذه العجالة أن نستعرض جهود هؤلاء جميعًا في مجال التحقيق، وإنما نقتصر على ذكر أعلام المحقِّقين الكبار الذين دَوَّتْ شهرتُهم في الآفاق، وطار صيتُهم في العالَم؛ لِما قدَّموا إلى المكتبة العربية من جلائل الأعمال في مَجال تحقيق التُّراث العربي الإسلامي، وما قاموا به من خدمةٍ لأمَّهات المصادر وإخراجها إلى النُّور لأول مرة.
وقد وقع اختياري على عشرةٍ منهم، قام بعضُهم بتحقيق كتب الحديث وعلومه، واشتغل بعضُهم بكتب اللُّغة والأدب والشِّعر، وانصرف بعضُهم إلى كتب التاريخ والأنساب وغيرها، وسوف أقتصر على ذِكر أهمِّ الملامح والخصائص لبعض ما حقَّقوه ونشَروه دون استيعاب؛ لعلَّها تكون كافيةً لِمَعرفة ما تَميَّز به كلِّ واحدٍ منهم.
كان العلاَّمة المحدِّث أبو الطيِّب "محمد شمس الحق العظيم آبادي" (ت 1329 هـ/ 1911 م) مِن أوائل مَن اهتمَّ بكتب الحديث، وصرَف أموالاً كثيرة لشرائها، وجمع مكتبة كبيرة تَحتوي على نوادر المَخطوطات، آلَت أخيرًا إلى مكتبة "خدابخش خان" في "باتنه"، وهو الذي نَشَر لأول مرَّة "سنن الدَّراقطني" بتعليقه الذي سمَّاه "التعليق المُغني"، خرج فيه أحاديثَه وتكلم على أسانيدها.