قناة

الدُّرّ النَّثِير( كُنَّاشة سامي معوض )

الدُّرّ النَّثِير( كُنَّاشة سامي معوض )
11.3k
عددالاعضاء
233
Links
291
Files
88
Videos
901
Photo
وصف القناة
#فائدة_جليلة
#أقسام_الكذب

ذكَر العَلَّامة اللغوي المُحدِّث السَّيد مُرتضى الزَّبيدي - رحمه الله - في تاج العروس ، مادة " كذب " نَقلًا عن ابن الأنباري - أنَّ الكَذِب في كلام العرب على خَمسةِ أضرُبٍ
:
الأول : أن يكون الكذب بمعنى تغيير الحاكي ما يَسمَعُه وأن يقول ما لا يُعلم نقلًا وروايةً ، وهذا القِسمُ هو المذمومُ المنهيُّ عنه ، وهو الذي يَهدِم المروءة.

الثاني : أن يقول قولًا يُشبِه الكَذِب ، ولا يَقصِد به إلا الحقَّ ، وهو ما يُعرَف بالمعاريض، وهو ليس مذموما، بل رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنَّ في المعاريضِ لَمندوحةً عن الكَذب " .
ومن هذا القِسم حديث : " كَذَب إبراهيم ثلاث كذْبَاتٍ " أي قال قولا يُشبِه الكَذب ، وهو صادقٌ في الثلاث .

الثالث : أن يكون الكَذب بمعنى الخطأ ، وهو كثيرٌ في كلام العرب .
ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - لَمَّا قال أبو الدرداء :" مَن أدرَكَه الصُّبح فلا وِتْرَ له " فَذُكِرَ ذلك لعائشةَ - رضي الله عنها - فقالت : كَذَب أبو الدرداء ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم يُصبِح فَيُوتِر .
ومنه حديث طاووس قال : كنتُ جالسًا عند ابن عمر ، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ أبا هريرة يقول: إنَّ الوِتر ليس بحتمٍ، فخذوا منه وَدعُوا.
فقال ابنُ عمر: كَذَب أبو هريرة ، جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألَه عن صلاةِ الليل ، فقال: "مَثنى مَثنى، فإذا خَشِيتَ الصُّبحَ فواحدة ".
وإنما سُمِّيَ ذلك كَذِبًا ؛ لأنه شبيهٌ بالكذب في كونه ضد الصواب ، كما أن الكذبَ ضدُّ الصدق ، وإنِ افتَرَقا من حيثُ النية والقصد ؛ لأنَّ الكاذب يَعلمُ أنَّ ما يقولُه كَذِبٌ ، والمُخطئ لا يَعلم ، وهذان الصحابِيَّان ليسا بِمُخْبِرَينِ، وإنما قالا ذلك باجتهادهما، والاجتهاد لا يَدخلُه الكَذِب، وإنما يَدخله الخطأ .
وجاء في " التوشيح " : أهل الحجاز يقولون : كَذَبْتَ ، بمعنى أخطأتَ .

الرابع : أن يكون بمعنى " البُطول " يقال : كَذَب الرَّجلُ ، بمعنى بَطَل عليه أمَلُه وخابَ رجاؤه ، ومنه قوله - تعالى - : " انظُر كيف كَذَبُوا على أنفسِهم " أي انظر كيفَ بَطَلَ عليهم أمَلُهم

الخامس : أن يكون " كَذَب " معناه الإغراء ومطالبةُ المُخاطَب بلزومِ الشيء المذكور .
ومنه قولُ عمر - رضي الله عنه - : " كَذَبَ عليكم الحَجّ ، كَذَبَ عليكم العُمرَة ، كَذَبَ عليكم الجِهاد ، ثلاثة أسفارٍ كَذَبْنَ عليكم ".
ومعناه : الزَمُوا الحجَّ والعمرةَ والجهادَ.
والمُغْرَى به مرفوعٌ بــ" كَذَب " ولا يجوزُ نَصبُه؛ لأنَّ " كَذَب " فِعلٌ لابدَّ له من فاعِل ، والفعل والفاعل كلاهما تأويلُهما الإغراء، ومَن زعم أنَّ الحج والعمرة والجهاد في حديث عُمر حُكمُهنَّ النَّصبُ فقد أخطأ ؛ إذ يكون قد حَكمَ بِخُلوِّ الفعل عن الفاعل .
وقد حكى أبو عُبيدٍ عن أبي عُبيدةَ عن أعرابيٍّ أنه نَظَر إلى ناقة ٍنِضْوٍ لرجلٍ فقال : كَذَبَ عليكَ البَزْرَ والنَّوى.
قال أبو عبيدٍ : لم يُسمَعِ النَّصبُ مع " كَذَبَ " في الإغراء إلا في هذا الحرف، قال ابن الأنباري : " وهذا شاذٌّ من القَول خارِجٌ في النَّحو عن منهاجِ القياس، مُلْحَقٌ بالشَّواذِّ التي لا يُعَوَّلُ عليها ولا يُؤخَذ بها " .
لكنْ نقَلَ الزَّبيدي عن شيخِه ابن الطَّيِّب الفاسي قال : والصحيحُ جوازُ النَّصب ، لِنَقلِ العلماءِ أنَّ النصبَ لغةُ مُضَر ، وأنَّ الرفعَ لغةُ اليَمن .
وتوجيهُ الرفع أنه من قبيل ما جاء من ألفاظ الخَبر التي بمعنى الإغراء نحو : رَحِمَهُ الله ورَضِيَ عنه ، أي اللهمَّ ارحمه وارضَ عنه ، وحسبُك زيدٌ، أي اكتفِ به .
وتوجيهُ النصب أنَّه من بابِ سِرَايَةِ المعنى إلى اللفظ ؛ لأنَّ المُغْرَى به لَمَّا كان مفعولا في المعنى اتَّصلَتْ به علامةُ النَّصبِ لِيُطَابِقَ اللفظُ المعنى.
في ترجمة أبي بكر التّسولي المالكي ، قال عنه ابن فرحون :" كان فصيحَ اللسان ، سهلَ الألفاظ ، مُوفيًا حُقوقها ، وكان مجلسُه وَقفًا على " التهذيب " و " الرسالة " وكان مع ذلك سَمحًا فاضلا ، امتُحِنَ بصحبة السلطان ، فصار يَستعمِلُه في الرسائل ، فانصرف في ذلك حظٌّ كبيرٌ من عُمُرِه ، لا في راحة دنيا ، ولا في نصيب الآخرة ".

ثم قال :" وهذه سُنَّةُ الله فيمن خَدَمَ الملوك ، مُلتَفِتًا إلى ما يُعطونه، لا إلى ما يأخذون من عُمره وراحته، لَطَفَ الله بنا وبمن ابتُلِيَ بذلك ".

نسأل الله العفو والعافية
هذا الكلام مناقض لدين محمد صلى الله عليه وسلم ومخالف لصريح القرآن الكريم ومقتضٍ للكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
للزمخشري رحمه الله فيما حكاه القرآن الكريم عن فرعون لعنه الله، في قوله : " قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ" استنباط لطيف دقيق، يدلُّ على ثقوب فهمه ودقّة نظره، يقول:
يلوح مِن جَيبِ قوله : "أجِئتنا لتخرِجنا مِن أرضنا بِسِحْرِك" : أن فرائصَه كانت تَرتَعِد خوفًا مما جاء به موسى -عليه السلام- لِعلمِه وإيقانه أنه على الحق، وأنَّ المُحِقّ لو أراد أن يقودَ الجبال لانقادَت، وأنَّ مِثله لا يُخذَل ولا يَقِلُّ ناصِرُه ، وأنه غالِبُه على مُلكه لا محالة.
وقوله :"بِسِحْرِك " : تعلُّلٌ وتحيُّر ، وإلا فكيف يَخفى عليه أن ساحرا لا يَقدِر أن يُخرِج مَلِكًا مِثله من أرضه ويغلبه على مُلكه بالسِّحر!.
فائدة منقولة عن الشيخ جمال الدين ابن مالك رضي الله عنه :
_________________

أخَفُّ الأفعال الثُّلاثِيّة: المفتوحُ العين، لأن الفتحة أخَفُّ الحركات، وأثقَلُها المضموم العين، لأن الضمة أثقَل الحركات، والمكسور العين أوسَطُها، لأن الكسرة أقَلُّ ثِقَلًا من الضمة، وأقلُّ خِفّةً من الفتحة، فَرُتِّبَ على هذا: أنْ جُعِل المضموم العين ممنوعَ التعدّي تخفيفًا، لأن التعدي يستدعي زيادةَ المُعَدَّى إليه، وجُعِل عدمُ التعدي في المكسور العين أكثرَ من التعدي، وكَثُرَ الأمران في المفتوح العين لِخَفَّتِه.
من أعجَب الأمور وأطَرَفِها أن الرجل الذي وَضَع علم النحو باعتباره صناعةً لها قانون واصطلاح عُرفي خاص، وهو أبو الأسود الدؤلي- هو نفسُه مِمَّنْ يُحتَجُّ بكلامه - إجماعا- على إثباتِ القواعد الكُلّيّة في لسان العرب.
ابن السيد البطليوسي: " التصحيف في اللسان العربيّ أكثر منه في سائر الألسنة".

وأرجَع ذلك إلى الخلاف الشديد بين النحويين والكُتّاب في الهجاء ( الإملاء) وعدم التزامهم قياسا مُطّردًا فيه، فنشأ عن ذلك ما لا يُحصَى من الخطأ في رسم الحروف، المترتب عليه اختلاف في المعاني .
أحيانا يستفيد الإنسان مِن مِحْنَتِه وبلائه فوق ما يستفيده من سلامته ومعافاته، ولو أنه يتدبَّر أقدارَ الله تعالى بهذه العَين لهانَ عليه شدةُ البلاء، ولامتلَأ قلبه بالرضا، ولفَازَ بمرضاةِ الله.

حينما تُطالع مُفتتَح الكتاب العظيم " تهذيب اللغة " للإمام أبي منصور الأزهري( وهو ليس منسوبا إلى الأزهر الشريف، وإنما إلى جَدِّه الأزهرِ بن نوح، وقد ماتَ أبو منصور في أواخر القرن الرابع الهجري، قبل أن ينتسب العلماء إلى الجامع الأزهر ) وترى مِحنته ووقوعَه في الأسر، وكيف استفاد من هذا البلاء، وكيف وظَّفَه لخدمةِ مشروعه اللغوي الذي أمضَى فيه سبعين سنةً من عُمره الكريم الشريف، فإنك تعلم أن الله تعالى قد يَسوقُك إلى الخير من الطريق الذي يريده هو، لا الذي تريده أنتَ لنفسك.

يقول : " وكنتُ امتُحِنتُ بالإسار- أي الأسر - سنةَ عارضَتِ القرامطة الحُجَّاج بالهَبِير - اسم مكان- وكان القوم الذين وقعتُ في سَهمِهم عربًا، عامَّتُهم من هوازن، واختلطَ بهم أصرامٌ من تميمٍ وأسَد، نشأوا في البادية يَتتبَّعون مساقطَ الغيث أيام النُّجع، ويَرجعون إلى أعداد المياه، ويَرعَون النَّعَم، ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحِهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في منطقهم لحنٌ أو خطأ فاحش، فَبَقِيتُ في إسارهم دهرا طويلا ... واستفدتُّ من مخاطباتهم، ومحاورة بعضهم بعضا ألفاظا جَمَّة، ونوادر كثيرة، أوقعتُ أكثرها في مواقعِها من الكتاب، وستراها في موضعها إذا أتت قراءتُك عليها إن شاء الله ".

فلو أنه لم يقع في الأسرِ، ولم يُقدَّر له هذه المِحنة لَفَاته عِلم غزير، ولَضاع منه كثير من ألفاظ العربية، بل إنَّ هذه المِحنة قد مَكَّنته من مشافهة هؤلاء الأعراب والأخذِ عنهم بلا واسطة، وقد كان هذا من دواعي الوثوق التامّ بكتابه وتقديمه على غيره.

كأنّ قومًا إذا ما بُدّلوا نِعَمًا
بنكبةٍ لم يكونوا قبلها نُكِبوا.
في شرحِ اللُّمَع النحوية يَتعرَّض الباقولي أحيانا لنقدِ ابن جني والاعتراضِ عليه، ولمَّا استشعَر أن هذا النقد رُبَّما يُجرِّئ الناظِرَ على مقام أبي الفتح قال -، وهي كلمة عظيمة - :

" ولا يُعجِبَنَّك إقدامُنا على هذا الشيخ أحيانا، وتذكَّرْ قول قائلهم:

ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلُّها
كفى المرءَ فضلًا أن تُعَدَّ مَعَايِبُه ".

وهي كلمة شريفة، تنفي عنه الغرورَ والتعالي المزعومَينِ
في مسائل الخلاف قد يَطَّلِع العالِم على دليلِ مُخالِفِه ولا يُسلِّم به في مَورِد المسألة، فلا يصح أن يُستدَلَّ عليه بنفس الدليل، بل بدليلٍ آخر، أو ببيانِ صِحّةِ الدلالة في الدليل الأول.
ومن الأمثلة على هذا أن أبا علي الفارسي ذهَب إلى أن " ليس " حرفٌ لنفي الحال، وذهَب الجمهور إلى أنه فِعل، بدليل اتصال ضمائر الرفع به، نحو: لستُ، ولستَ، ولسنا، ولسنَ، مع أن أبا عليّ اطلَع على هذا الدليل وردَّه في كُتبه، فإما أن يُنقضَ ما ردَّه، أو يُورَد شيء غير مدفوع على دليله الذي احتجّ هو به على مذهبه، أمَّا مجرد سوق دليل المخالف بلا بيان فلا يكفي، والله أعلم.