الكلام والله في الجناب المحمدي شديد الخطورة، وينبغي أن يتحرز المرء في اختيار تعابيره فيه جيدا، وقد أفتى مالك رضي الله عنه فيمن قال " إن تربة المدينة رديئة" أن يُضرب أسواطا، وقال: ما أحوَجه إلى ضربِ عُنقه! أرضٌ دُفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنها رديئة! وكثير والله مما يتساهل فيه الناس في كلامهم عن هذا الجناب الأقدس حُكمه التعزير عند المالكية ويُخشى على صاحبه سوء العاقبة، وهذا الأستاذ ينكر مجموعة تامة من الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة ويجعلها كلها في رتبة واحدة من الضعف أو الوضع، متغافلا عن مسالك العلماء فيها، وخالطا خلطا منكرا بين ما تُشترط فيه الصحة وبين ما لا يُشترط فيه ذلك، ومتغافلا عن مقام الفضائل والمناقب الذي يُتسع فيه، ومتغافلا عن الأمور المشهورة عند أصحاب السيَر، مع أن الإمام الجليل تقي الدين السبكي وغيره رحمهم الله قالوا: إن الأمور التي ينفردُ بها أهلُ السِّيرِ إذا اشتهرت وعُرفت في بعض الأوقاتِ تكونُ أقوى من الحديثِ الذي ينفرد به ثقةٌ، فكيف وهم لم ينفردوا بهذه المناقب، بل هي مسطورة في المجامع والمسانيد، وغاية الأستاذ أن يصل إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مجرد واحد من الناس نزل عليه وحي واجتهد في تبليغه، وكفى، ولا زيادة على هذا المقدار، وهو ظن فاسد لا يغني عنه من الله شيئا، والإسلام كله يشهد ببطلانه، وهي لوثة أعجمية مستوردة من المستشرقين أخزاهم الله، وكتبتُ فيها بعض منشورات سابقا، والتقحّم في هذه الأمور بلا علم - خطير، وإرسال الكلام على عواهنه لا يُعجز عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
القرآن لا يتهاون أبدًا في تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وتبجيله، وتوقيره، لدرجةٍ خارجة عن حد التصوُّر الطبيعي.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ العَسل، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يصلي العصر، ثم يمرُّ على زوجاته رضي الله عنهن، وبالليل يبيت عند صاحبة الليلة، وقد لاحظَتْ السيدة عائشة رضي الله عنها أنه يتأخَّر عند زينب بنت جحش رضي الله عنها أكثر من غيرها، ثم عَلِمَت أنها تَسقيه عسلا، فاتفقَت مع السيدة حفصة أنه إذا دخل عليهما أخبرَتاه بأنه كأنه أكل مغافير( نوع من الصمغ رائحته غير طيبة ) من باب غيرة النساء، حتى تجعلاه لا يتأخر عند زينب، فلما دخل عليهما قالتا له: كأنك أكلتَ مغافير، فقال: بل سقَتْني زينب عسلا، فلما زار زينب وأرادَت أن تحضر له العسل امتنع عنه النبي صلى الله عليه وسلم ونوى ألا يأكله، فنزلت سورة التحريم.
ومع أن هذا موقف عادي جدا، ويحدُث في آلاف البيوت بشكل متكرر إلا أن القرآن الكريم لا يسمح أبدا أن يُمارَس مثل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل عاتب السيدة عائشة وحفصة رضي الله عنهما عتابا شديدا غليظا، وجعلهما خَصما مقابلا لله، وجبريل، وسائر الملائكة، وصالحي المؤمنين، إن هما لم يتوبا من هذا الموقف، فقال : " إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ " تخيل!! الله عزوجل وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير في طرَف، وعائشة وحفصة في طرَف، لأجل موقف عابر بسيط غير محسوب العواقب.
فهذه الصرامة وذاك الحزم في هذا الخطاب الإلهي المتعلق بحفظ الجناب النبوي ينبئك عن جلال الخطب، ورهبة هذه الذات المحمدية الشريفة، وأنها شديدة الخصوصية، وبالغة التَجِلّة، لدرجة أن يتحرك جبريل ويخرق حُجُب السموات، ويتنزل بقرآن يُتلَى إلى يوم القيامة في شأنٍ نعدُّه نحن غير خطير، ( شربة عسل ) فما بالك بمن يحادد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفض أمره ونهيه، ويعترض عليه !!
يقول الزمخشري: " والملائكة" على تكاثُر عددِهم، وامتلاء السموات من جموعهم "بعد ذلك" بعد نُصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين "ظهير" فَوجٌ مُظاهِر له، كأنه يد واحدة على من يُعاديه، فمَا يبلغ تظاهُرُ امرأتين على مَن هؤلاء ظُهَراؤه؟".