قرأت ما كتبه بعض المشايخ حول
#مكونات_الشخصية_المصرية ، وهو في الحقيقة كلام لطيف ، من لطفه لو نزعت منه كلمة "المصرية" ووضعت مكانها أي بلد ، فلن يختل السياق!
من حق كل أمة الافتخار بنفسها ، إن تم توظيف هذا الفخر لعمل وبناء ينفع الدين والدنيا كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
والإنسان المصري بالفعل محب للعلم، وفيه ذكاء وسرعة بديهة وصبر وجلد .. وفي كل أمة خير كثير ، والإسلام جاء لتنصهر القوميات وليتعارف الناس وتتسارق طباع الخير فيهم ، فيكونون كأوان مستطرقة لا تدري الخير في أولها أو آخرها ..
ذكر صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم" ما تمتاز به كل أمة بناء على عطائها التاريخي ، بعد أن جعل أمم الأرض سبعة ، وذكر أن الأمة القبطية تمتاز بمحبة العلم والإقبال عليه لاسيما علم الطب والفلك والهندسة والأديان، وذكر اشتراك الفرس والهنود معنا في ذلك عند حديثه عن خصائص تلك الأمم ، بخلاف الأتراك مثلا الذين جعلهم أهل حرب وقتال ، والترك أمة كبيرة وقبائل شتى وليست هي تركيا الحالية بل العرق التركي يشمل الصين وروسيا ووسط آسيا كله ..
على أن في هذا الطرح أصلا إشكالات انثروبولوجية تتعلق بتحديد الأمم، مبنية على مسلمة النقاء العرقي التي ثبت فشلها .. وليس هنا موضع النقاش ..
المهم أن التغني بالتاريخ جميل لكن العيش فيه مرض ، لاسيما ونحن أمة مريضة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع .. لاسيما والإنسان المصري المعاصر لا يجد تعليما جيدا ولا مستشفى محترمة ولا حياة تحفظ آدميته ، ومتوسط دخله السنوي أقل من دخل فلسطين المحتلة من سبعين سنة ، والعراق الممزق من ثلاثين سنة ، ومن غالب دول أفريقيا التي خرجت لتوها من أدغال الفقر والمرض ولم يكن لها من العمق والخبرة ما لمصر ، مع امتلاكنا ثروات الطبيعة وكفاءات العقول ..
أين الخلل ؟ وهل نستطيع مواجهة أنفسنا بصدق أم أن نوستالجيا الماضي مريحة والحديث في المتخيل لا يكلف ثمنا ، كالحديث تماما عندما تكون حرية التعبير موضة والجرأة بلا ثمن؟!
منذ أيام أغلقت مستشفى سرطان الأطفال بطنطا والتي كانت تقوم على التبرعات .. فأين يذهب هؤلاء بمرضهم القاتل ، وفي كل يوم نرى نماذج مشوهة من الإنسان المصري الأصيل ، حيث الكثير من "السرسجية" في شوارع مصر!
كم سمعنا من كبار المشايخ كلاما ردده التلامذة كثيرا: الإنسان قبل البنيان ..
فكم مدرسة ، ومصنع ، وجامعة ، وبحث علمي أنجزنا .. وهل هناك أمل في الإنجاز أصلا في ظل ديون سنظل نسددها مع فوائدها الربوية حتى سنة 2070م ولأجل سدادها نبيع أصول بلدنا ونبحث عمن يشتري بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين ، ومن تحتنا سد يبنى على نيلنا ومصدر حياة مصرنا ، وجزر بيعت ليستفيد منها أولاد العم .. في ظل عدم احترام لدراسات الجدوى ، وشرذمة المجتمع وانتشار الحقد بين أبنائه ، وتردي القيم ، وعدم الاستماع لنصح الناصحين!
لا نريد العيش في واقع مواز هربا من واقع يحتاج لإصلاح ، لابد أن نقدم بين يدي إصلاحه بممهدات كثيرة يبدو أننا لا نعلمها ، أو علمناها وعاندنا سنن الله في كونه ..
تشعر أحيانا أن بعض ما يكتبه المشايخ صادر من عيش داخل فقاعة أو من عالم سحري يشبه عالم ماركيز في "مائة عام من العزلة"!
مصر الكبيرة القوية حلم راود ومازال يراود كل محب لبلده ومخلص لأمته، وشباب مصر من أنقى الشباب ، ومصر بأزهرها ركن من أركان الإسلام ، لكنها يقينا ليست مصر التي نراها ، ولا شبابها الذين أهملنا تربيتهم وتعليمهم هو شباب مصر التي نريد ، هذا الشباب الذي صار كل حلمه الهجرة منها ، ولا علمائها واساتذة جامعاتها وأطبائها الذين يعانون فيها العوز ويقاومون كل يوم للبقاء أحياء ، وأعيذ نفسي من نزعة صهيونية تذهب لمدح عرق وتفضيله على العالمين دون تقديم شرط التفضيل والخيرية!
مصر الحالية تحتاج إلى غرفة إنعاش ، وتحتاج إلى التخلص من أوزار التسلط والأنانية ، والتمحور حول فئة أو حزب لمصلحة ضيقة أو شهوة عارضة ..
الإنسان المصري الحالي يعاني في كل مفردة من مفردات يومه ، وقد عشت في بلدان أشد فقرا من مصر لكن لدى شعبها من الكرامة ما لا نجده في شوارعنا وتعامل الإدارات مع شعبنا .. والاهتمام لأمر الناس وتسهيل حياتهم ليس اختراعا ولا شيئا سنكتشفة ، لكنه إرادة وإدارة.. إذا علم المسؤول أنه خادم وليس سيدا ، وإذا كان القانون هو الحكم لا الهوى المتبع..
مصر تحتاج إلى مصالحة ، وعدالة انتقالية ، وشورى حقيقية في مجالس محلية ونيابية منتخبة ، وتوزيع عادل للثروات، ومؤسسات تراعى الكفاءات لا المحسوبيات ، واهتمام بالفقراء والمرضى منا .. ولا خير فينا إن جاع إنسان أو مات مريض كان يمكن إنقاذ حياته بثمن كوب قهوة من ستاربكس!
أرجو أن يكون للسادة من "الكشف" أو "الاطلاع على بواطن الأمور" ما لم يرزقنا به الله -وهو فعلا ما أتمناه- سائلا الله أن يخلف ظني وتقديري!
..
إن بعض ما نكتب ليس سوى كلام شعري ؛ يفيد في جلسات السمر لكنه لا يفيد في بناء الأمم!
د أحمد الدمنهوري