قناة

الدُّرّ النَّثِير( كُنَّاشة سامي معوض )

الدُّرّ النَّثِير( كُنَّاشة سامي معوض )
11.3k
عددالاعضاء
233
Links
291
Files
88
Videos
901
Photo
وصف القناة
مخطوطات مكتبة مراد ملا، بتركيا، تنزل تِباعا.
إذا كنتَ تقرأ لأحد العلماء الموصوفين بالتمكّن في فنّهم ووجدتَّ له كلاما يخالف ظاهره مبادئ القضايا التي لا تخفى على المبتدئين في هذا الفن - فلا يصح أن تسارع بالإنكار ، ولا أن تجازف بالاعتراض، لأنه ما دام أعرَض عن هذا الظاهر المعروف الذي لا يخفى على من له أدنى اشتغال فلابد أن ثمة شيئا وراء هذا الإعراض، وهذا يدعوك إلى التفكر والتأمل، وبمثل هذا تقوى لديك ملكة التحليل والنظر.

وهذا المعنى مستنبط من قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر عليهما السلام، وقد أومأ إليه الإمام الغزالي رحمه الله، قال:

" وقصة موسى والخضر عليهما السلام فيها تنبيه على هذه الدقيقة؛ فإنه لو خَرق السفينة أحدٌ من العوام لاستوجَب الاعتراض، وأما إذا خرَقها العالم الكامل فلا يصح الاعتراض عليه؛ فإن الكل يعرف وجوب حفظِ مال الأيتام، فالعالم أيضا يعلم هذا، ومع علمه خرَق السفينة، فلابد أنه يعرف وراء ذلك شيئا يكون هذا الفعل بالإضافة إلى ذلك الشيء فعلا غير منكر" انتهى.

بل الأمر فوق هذا بكثير، فإنه قد تقرَّر في علم المعاني أنَّ إجراءَ الكلام على مُقتَضى الظاهر لا يَتضمَّنُ من النُّكتةِ واللطيفة ما يَتضمَّنه الإجراء على خلاف المُقتَضى.
أنكر المتكلمون الوجود الذهني، فما معنى قولهم إذن : إن للأشياء وجودا في الأعيان، ووجودا في الأذهان؟

أجاب العلامة العطار بأن الوجود في العبارة السابقة المشهورة في كتب المتكلمين لا ينبغي أن يُحمل على الاعتراف بالوجود الذهني الذي يقول به الفلاسفة، بل معنى كلامهم أن الذهن يلاحظ الشيء ويلتفت إليه فيقال إن الشيء قام بالذهن، أو وُجد فيه، تسمُّحًا، وملاحظة الذهن للأشياء لا يستلزم قيامها به على النحو الذي قال به الحكماء، ولذلك قال العلامة مير زاهد في حواشيه على حاشية الدواني على التهذيب: إن الحضور في الذهن عبارة ملاحظة الذهن والحصول فيه مما لا يخفى.

ثم قال العطار: ولنا كلام في هذه المسألة مبسوط في حواشي مقولات السيد البُليدي.
إن الباطل الذي يموت أو يُمَاط بالسكوت عنه هو الباطل الذي يظهر على استحياءٍ في المدينة الفاضلة التي يعيش أهلوها على كمالٍ من الوعي، وتمامٍ من الفضيلة، فيكون التعرُّض للباطل تعكيرا لهذا الصفاء، وتلويثا لهذا الثواب الأبيض الناصع الجميل.
وأما حين يكثر الفساد، وتختلط الأوراق، ويلتبس الحق بالباطل، ويغلب الشر على الخير، وتضطرب معايير الحكم على الأشياء فليس السكوت حينئذ إلا تمييعا للمبادئ الحقة، وتضييعا لواجب النصيحة، وفتحا لأبواب الفساد على مصارعها، وهو أمر يستجلب السخط الإلهي الذي لا يصيب الذين ظلموا خاصة، وفي مثل هذا تشتد الحاجة إلى العلم المؤيد بالفهم، والمنصور بالبرهان، والمدعوم بالحكمة؛ على أنه - والحالة هذه- لابد من تحرير عدة أمور:

الأول : أن يكون الباطل باطلا في نفس الأمر، لا شيئا متوهما بطلانه في ذهن المتعرض لإنكاره.

الثاني: أن يكون مما لا يسوغ فيه الخلاف.

والثالث: ألا يؤدي إبطاله إلى ما هو أشد منه نكرانا وفسادا.

والرابع : أن يكون إنكاره من باب التواصي بالحق، والنصيحة للمؤمنين، لا أن يكون وصاية وتسلُّطا على الناس، وخطابًا لهم من بُرجٍ عالٍ بلسان حال الوكيل عن الإله الأعلى، وبين هذين الأمرين تزل أقدام كثيرة.
أصحاب المعاني أو أهل المعاني في كتب التراث هم النحاة، كان هذا اللقب غالبا عليهم لا سيما أن المتقدمين منهم أول مَن كتبوا في معاني القرآن العظيم وبيان مقاصده على وَفقِ ما تسمح به قوانين العربية، وحمَلت مؤلفاتهم اسم المعاني، كما تراه في " معاني القرآن " للفراء، والأخفش، والزجاج، والرؤاسي، والنحاس وغيرهم، وكذلك كان لهم النصيب الأوفر في شروح الشعر، وجاءت مؤلفاتهم تدور حول هذا المركب الإضافي " معاني الشعر" وكان للشيخ أبي علي الفارسي وطلابه أوفى نصيب في هذا الباب.

ولعل هذا كله كان ترجمة واقعية وتطبيقا عمليا لِما دار في أخلادهم واستقر في مواجيدهم من أن علم النحو لا يقتصر مَداه على صون اللسان عن الخطأ في الكلام، بل يتسع ليشمل الفقه في معاني الخطاب، والبَصر بمواقع الخطأ والصواب، والإحاطة بمقاصد كلام العرب والوقوف على خباياه، فالنحو - كما قال ابن السراج - علمٌ استخرَجه المتقدِّمون فيه مِن استقراء كلام العرب، حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة.
وما ترادَف عليه صنيعُ المتأخرين إنما كان تجريدا للقواعد التي قرّرها المتقدمون، ليسهل حفظها وتحصيلها، كما هي عادتهم في الاختصار، ولم يكن إهدارا منهم لمقاصدهم.

ومن هنا يظهر لك أن علم البلاغة لا يختص وحده بالنظر في المعاني ونقدِ الكلام، بل إن عبد القاهر إنما أقام كتابيه على أصول مبثوثة وكلمات متناثرة في كتب السيرافي وأبي علي الفارسي، ولعل هذا هو جعل الإمام السكاكي رحمه الله يُصرّح بأن تمام علم النحو بمعرفة المعاني والبيان، كما أن تمام علم التصريف بمعرفة الاشتقاق.
لطيفة:

في أول شرح علم الدين اللورقي الأندلسي على المفصل للزمخشري، قال:

" وجدتُّ مكتوبا على نسخة من نُسَخ المفصل: أخَذ في صنعة هذا الكتاب غُرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وفرغ منه غرة المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأسمَعَه الناسَ من لفظِه في المسجد الحرام بباب " شيبة" تجاه الكعبة، مستهل ذي الحجة، سنة سبع عشرة وخمسمائة، رحمه الله وعفا عنه" انتهى.

تضمَّن النص تاريخ الابتداء في تأليف المفصل، وتاريخ الفراغ منه، وتاريخ إخراجه للناس، وهذه المعلومات في غاية الأهمية للمحقق من جهة، وللوقوف على آراء الزمخشري ومعرفة السابق من اللاحق منها من جهة أخرى.
يرى العلامة العطار رحمه الله أن أحسن الكتب وأفضلها في علم آداب البحث والمناظرة: حاشية مير أبي الفتح التبريزي على ملا حنفي على العضدية، وحاشية ملا صدر الدين ابن الفاضل عليه أيضا، وكتاب تقرير القوانين لطاشكبري زاده، فهذه الكتب عنده كافية تمام الكفاية لتحصيل مقاصد هذا الفن بكل مباحثه ودقائقه، فهي العُمَد في هذا العلم، الجامعة لِما تفرق في غيرها من المصنفات.

وأقول: ومن أحسن كتبه في هذا العصر - بحسب اطلاعي- كتاب الأستاذ الفاضل والعالم الجليل الدكتور د.محمد ذنون، وفقه الله ونفع به، فقد جمع زبدة كتب الفن، ودقة مباحثها، مع العبارة العصرية، والنَّفَس البحثي الأكاديمي المتين:
الخلاف طويل الذيل بين العلماء في مسألة وضع اللغات، أهي توقيف أم اصطلاح! والخلاف كذلك واقع بينهم في ثمرة هذا الخلاف في هذه المسألة، أهو مما يترتب عليه فائدة؟ أم هو فقط لمجرد رياضة الأذهان وشحذ العقول! وقد بحثتُ فيما تيسّر لي فوجدتُّ أنَّ خيرَ مَن أشبَع القولَ في هذا الموضوع هو العلامة الأصولي مفتي الديار التونسية الشيخ محمد جعيط رحمه الله، في حاشيته النفيسة على شرح التنقيح للقرافي، فراجعها هناك تستفد كثيرا، وتشاهد مناحي وزوايا مهمة لهذه المسألة في الأصول والفروع.
من مظاهر الانهزام الحضاري والثقافي لدى المسلم المعاصر: اقتناعُه باستمدادِ اللغة العربية ألفاظًا ومفرداتٍ من اللغة الفارسية والرومية، في حين أنه يَستبعد غاية الاستبعاد أن تُوجَد في الإنجليزية أو الأسبانية لفظة أو مفردة عربية، ومع أن هذا التصوّر مخالف تماما للواقع اللغوي الاستعمالي، فهو موقف يستبطن بداخله أنَّ ظاهرة التلاقح اللغوي بين اللغات منحصرة في العربية في جانب أخذِها واستفادتها من الغير فحسب، وهو وهم قبيح سخيف، على أن العربية أعرق وأقدم من معظم تلك اللغات، وصولتها على حواضر العالم كله في عصور فارطة أمر معلوم بالضرورة.