علم القراءات هو المجال الرحب والمرتع الخصب الذي تتجلى فيه النواحي التطبيقية لدارس النحو؛ بما يظهر فيها من مذاهب النحاة ولهجات العرب، وفي هذا العلم تتثبَّت في ذهن الدارس أمثلة الكثير والقليل والنادر والشاذ، ويتعرّف إلى حدودها الدقيقة، وفيه تبِين للمنصف عنايةُ النحويين الشديدة بالقرآن الكريم وتشبُّثهم الواضح به، لا كما يزعم الزاعمون من تنكُّبهم عن طريقه.
[ فصلٌ في التداخل بين المنطق والعربيّة ]
لِيكن في عِلمك أن عِلم العربية - مع كونه بالذات لإصلاح اللسان - لم يَخْلُ من المعاني التي ترتاض بها الأذهان، حتى لقد تناوَلَ عِلمَ المنطق، فكان له فيه النصيبُ الوافر، يَعرِف ذلك مَن له خِبرةٌ بالعِلْمَينِ.
انظر مثلا في الاستعارة التصريحية، كقولك: رأيت أسدًا يرمي، تجدها قياسا من الشكل الأول، حُذِفَت كُبراه والنتيجةُ، لوضوحها.
وبيانه: أن المشبَّه المَطْوِيّ كــ( زيد) مثلا، هو المُتحدَّث عنه بأنه أسَد، وكلُّ أسد شجاع، فــ( زيد ) شجاع بهذا الدليل، وبهذا تفهم قول البيانيين إن المجاز أبلَغ؛ لأنه كدعوى الشيء ببيِّنةٍ، إشارة إلى ما ذكرناه.
وانظر أيضا إلى الكناية، فإنها تنقسم عندهم إلى:
- ما يُطلَب بها المفرد، وهذا من باب المُعَرِّفات لطلبِ التصوُّر، فإذا قلتَ: رأيت حَيًّا عريضَ الأظفار مستويَ القامة، فهو تصوير للإنسان بهذا الرسم، وهذا أحدُ قِسْمَيِ المنطق.
- وإلى ما يُطلَب بها النِّسبة، وهذا قياسٌ كالأول، فإذا قلتَ مثلا: فلان كثيرُ الرماد، فهو استدلال، أي: وكلُّ الكثير الرماد كريم أو مِضياف، وهذا واضح، ولهذا أيضا قالوا: الكناية أبلغ من التصريح.
فالمنطق مُودَعٌ في كلام العرب، ولا يضرُّ كونُ كثيرٍ من لغة العرب خِطابيات وإقناعيّات؛ لأن المنطق صادقٌ بالصناعات الخمس، ومَن تَتبَّع الاستدلالات الشِّعرية وجَد أمرا كثيرا، فاعرِف ذلك، وإنما ذلك لأن المنطق مركوز في الفِطَر، فلا يختصُّ به الحكماء وإن كانوا تنبَّهوا فيه لبعضِ ما لم ينتبه إليه غيرهم من الكيفيات والشرائط، وهذا بخلاف العِلم المتعلق باللسان فهو مختصّ، إذ لكلِّ قومٍ لسانٌ ليس لغيرهم، كما قال تعالى:" واختلافُ ألسنتكم وألوانكم ".
فعلوم العربية مخصوصة بالعرب، غير أنه يجب أن يُعلَم أن هذا إنما هو فيما يرجع إلى ألفاظهم الموضوعة لمعانيها وتراكيبهم المخصوصة، أمَّا ما يرجع إلى الأغراض المُؤدَّاة فهي مُشترَكة؛ فقد بَلَوْنا لغةَ العَجم، ولا سيما لغةُ البربر التي نُتْقِنُها، فوجَدناها مشتملةً على جميع ما في لغة العرب من المقاصد والمعاني، وما فيها من تقديمٍ وتأخيرٍ وذِكرٍ وحَذفٍ وإيجازٍ وإطنابٍ وإطلاقٍ وحَصرٍ وحقيقةٍ ومجازٍ وكنايةٍ وتعريضٍ، وغير ذلك، حتى إنه لا يكاد يُوجَد بين اللغتين فرقٌ إلا في مجرّد العبارات.
ولكنَّ العربية خُصَّتْ بالفصاحة والسلاسة وبعض الأساليب الحِسَان.
وما ذكرناه بَيِّنٌ لا خفاء فيه عند مَن له أدنى شعور؛ لأن مقاصد العقلاء مُتّفِقة أو متقارِبة، عَربيِّهم وعَجميِّهم.
الإمام العظيم أبو عليّ اليوسي تــ1102هــ