في نشر هذا الكتاب عجيبة من عجائب القدر، وأن سعي المرء مهما اجتهد فيه، محكوم طول الوقت إلى التدبير الإلهي، وأن ما كان للمرء فهو له، طال الوقت أم قَصُر.
كنتُ أمس اقرأ في هذا الكتاب "شرح ابن ناقيا البغدادي على فصيح ثعلب" وإذا بمحقّقه الدكتور عبد الوهاب العدواني، يكتب تصديرًا شجيًّا في خمسين صفحة، أوثقني إلى الكتاب شغوفًا بقصته.
وذلك أنّ المحقّق أول الأمر كان قد كتب سنة 1967 رسالة ماجستير عنوانها "الأدب في ظلّ الدولة الزنكية"، ثم امتنعت الجامعة عن مناقشتها (جامعة بغداد)، لأسباب اعتقد الطالبُ وأستاذه أنّها متعلقة بموقف من أستاذه "مشرفه" الدكتور مصطفى جواد. وتعويضًا له طلب منه أستاذه استرجاع بحث كان قد قدّمه لمجلة المجمع العلمي العراقي عن ابن ناقيا، لينتفع التلميذ ببحث أستاذه، وهكذا ضحى الأستاذ ببحثه وجعله مادة مهداة لتلميذه. وذلك أن التلميذ كان قد حصل على نسخة فريدة من شرح ابن ناقيا مستخفية بين مخطوطات "مكتبة مدرسة الحجيات الوقفية بالموصل".
ثم كانت الدراسة والمناقشة في كلية الآداب في جامعة القاهرة سنة 1973، وقدمها للنشر سنة 1977 في "سلسلة إحياء التراث" في وزارة الأوقاف العراقية، ليضيعها الإهمال عقودًا متصلة!
لتُنشَر في دار نشر مصرية بعمل مضاعف عليها سنة 2021.
وهكذا أراد الله إحياء شرح ابن ناقيا بعد قرون من ضياعه، وهكذا أراد نشر الشرح بعد عقود من تحقيقه وسعي صاحبه في نشره، وقد كان صاحبه جادًّا مثابرًا، بل ودافع عن حقه صراحة لما سُرِقت جهوده كما فعل أحدهم مع شرح ابن جبان على الفصيح، فقد نقل أشياء كثيرة من دراسة صاحبنا وهوامشه، فدافع صاحبنا عن حقه، وقد نشر تحقيق كتاب ابن جبان قبل تحقيق صاحبنا لكتاب ابن ناقيا، وأفاد جهد صاحبنا في اضطرار محقق ابن جبان في تعديل ما أخذه لينسبه إلى صاحبه، كما دافع صاحبنا لما وجد أستاذًا مصريًّا قرر تحقيق كتاب آخر لابن ناقيا هو "الجمان في تشبيهات القرآن" قد سطا على دراسته فدافع صاحبنا عن حقه، وفي هذه القصة حكاية لتصاريف القدر قد يجمل ذكرها لاحقًا.
والحاصل أن صاحبنا كان صاحب جد ومثابرة ودفاع عن حقه، ومع ذلك لم ينشر عمله إلا بعد 48 عامًا. فتأمّل!