حسن يوسف
ربما كانت اللحظة الأهم في الفلسفة هي لحظة الدهشة التي تعترى الذات أمام موضوع ما أو فكرة أو إشكالية. وعندما تثار الدهشة تتنقل الذات من أفق العادي والمألوف إلى أفق التفكير والتحليل والتأمل والسؤال. وهذا ما يلمسه القارئ لكتابات نيتشه؛ دهشة الفيلسوف أمام العالم ووقائعه وتاريخه.
ونيتشه عبر كتاباته نجده يبجل التفكير ويصفه بالنشوة العارمة التي من خلالها يستيقظ الذهن الإنساني ليتمكن من السؤال والدهشة ومن ثم الإبداع. يقول عبد الغفار مكاوي «لاشك عندي من أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته وألمه، بل ان التفكير المجرد ليبلغ عنده تلك القمة التي يصبح فيها فكرًا غنيًا بالصور الحية التي تليق بفيلسوف الحياة».
ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب . وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابه الأكبر «إرادة القوة» الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته : «إن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة»، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة : «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة» وأخيرًا هذه العبارة التي دونها في أوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كان يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه : « «إرادة القوة» .. كتاب هدفه التفكير، ولا شئ غير التفكير».(1)
ويمكن القول إن هناك سمة تميز بها نيتشه .. إنها القدرة على السؤال، ولأنه قادر على السؤال فمعنى ذلك لديه قدرة عالية على الدهشة؛ فالدهشة تعنى زلزلة لكل ما هو قائم وما هو معتاد وما هو راسخ، والدهشة بداية المعرفة وبداية الهدم وبداية البناء أيضًا .
يقول «لم يحدث إطلاقًا أن توقفت عند الأسئلة التي ليست أسئلة حقا، ولم يحدث إطلاقًا أنني استنفدت قواي . فعلى سبيل المثال ليست لدى خبرة بالمشكلات الدينية الحقيقية، وأنا لست على ألفة بالشعور «بالخطيئة» وبالمثل ينقصني معيار صادق لتحديد وخز الضمير. ومما يسمعه الإنسان فإن وخز الضمير لا يلوح لي شيئًا جديرًا بالتبجيل. أنا أكره أن أترك فعلا من أفعالي يتسكّع، إنني أحب أن أقتلع كلية النتيجة السيئة، النتائج، من أية مشكلة تتضمن القيم. في وجه النتائج الشريرة من السهل للغاية أن أفقد الوجهة الحقة التي أنظر منها إلى الحدث. إن وخز الضمير يبدو لي نوعًا من «العين الشريرة»(4).
1