لقائي بشيخنا الإمام العلامة الداعية
مولانا السيد أبي الحسن الندوي، رحمه الله
في شهر ذي الحجة 1415هـ
بقلم/ د. محمد أبوبكر باذيب
كان ذلك الفتى ذو الخمسة عشر ربيعاً لا يفتأ يطالع كتب أعلام عصره، ويعيش أحلاماً وردية بلقاء العديد منهم، لكونهم لا يزالون على قيد الحياة وقتها .. كان اسم علي الطنطاوي، وعبدالفتاح أبوغدة، وأبوالحسن الندوي، وغيرهم من الأكابر، يرن في أذنيه، ويلتمع أمام عينيه. وكانت مكتبة المأمون، التي تعد وقتذاك من أكبر مكتبات مدينة جدة، تزخر بمؤلفاتهم، ولم يكن يحول شيء أمامه دون الوصول إليها، فقد كان موظفاً فيها، يطالع الكتب ليل نهار في وقت عطلته المدرسية.
تمر السنوات، وينتقل من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية، وهو طالب بعدُ في مدارس الفلاح بجدة، وأشياخه في تلك المدرسة العريقة، منهم من هو تلميذ لبعض الأعلام، فقد كان شيخه وأستاذه العالم القدوة عدنان كامل السرميني، رحمه الله، كثيراً ما يحدثه عن أستاذه أبوغدة، وعن أستاذيهما الكبير راغب الطباخ، علم حلب البارز ومؤرخها الفذ. لقد كان اللقاء بالشيخ الطنطاوي متاحاً وميسوراً، فمكتبة المأمون ما هي إلا ملكٌ لأسباطه، أبناء بنته. كما أن الأستاذ مجد مكي كان يستصحبه معه كل أربعاء غالباً إلى مجلسه مع الشيخ، فكان ذهابه ومجيئه إلى منزل الشيخ متواصلاً.
وأما الشيخ أبوغدة، فقد كان ينزل مكة المكرمة وجدة ضيفاً كريماً على بعض طلابه، وفي تلك السنوات، كان قد أكثر الترداد على جدة، يزور مشايخ حضرموت، من السادة آل باعلوي، وغيرهم من أهل العلم كالشيخ العلامة الناخبي، رحمه الله. ليتصل بأسانيدهم، ويلتقي بأعلامهم، فكان أن زار شيخه العالم الصالح السيد حامد بن علوي بن طاهر الحداد، ولكن فاته ذلك اللقاء، فأخبره شيخه خبر الزيارة، وأطلعه على ثبت الشيخ الكوثري، الذي أهداه محققه الشيخ أبوغدة له في تلك الزيارة. وحفَّزه على لُقْيا الشيخ وأخذ الإجازة منه. فتم اللقاء أولا في مكة، ثم في جدة في منزل العلامة الأستاذ الجليل العلامة السيد محمد الشاطري، رحمة الله على الجميع.
إذا؛ فقد تم اللقاء بالجبلين الكبيرين، وبقيت أمنية لقاء الثالث منهم حلماً يراود الفتى .. فطفق يدبج المراسلات، ويبعث الرسائل عبر البريد إلى عنوان الندوة في الهند .. لعل وعسى أن تظفر إحدى تلك الرسائل بالمثول بين يدي الشيخ الندوي!.
وذات يوم؛ إذا بخبر سعيد ينمى إلى سمعه وعلمه، أن الشيخ الندوي قادم للحج في تلك السنة، 1415هـ. كان خبراً سعيداً حقاً، سيتحقق حلمه أخيراً. واستعد نفسيا وروحياً لذلك اللقاء المنتظر، وعاد يطالع كتب شيخه المحبوب من جديد، فقد اجتمع لديه وقتذاك جل ما في مكتبات جدة من مؤلفات الشيخ، فإن غرامه به دفعه إلى البحث عن كل مؤلفاته، كبيرها وصغيرها. وما لم يجده يباع، يطلبه بالتصوير الضوئي، حتى أن كتاب «نزهة الخواطر» لوالد الشيخ الندوي صور أجزاء منه ليربط سلسلة أخذ الشيخ من طريق أبيه وشيوخه الهنود الذين لا تتوفر تراجمهم في المصادر العربية المعروفة.
أما كتاب «شخصيات وكتب» فكاد يحفظه عن ظهر قلب، وكذلك «ربانية لا رهبانية» كم كرر قراءته، وكم سالت دموعه وهو يتعرف على شخصية العارف الرباني مولانا الشيخ فضل الرحمن الكنج مرادآبادي، وكم تاقت نفسه إلى العيش في رحاب (دارة علم الله الحسيني) في راي بريلي، حيث آل الحسني عشيرة شيخه الذي أحبه وتعشق أخلاقه وسيرته على البعد.
وفي ذات سحر، وقد تشبعت نفسه بحميا اللقاء المرتقب، وتملك أحاسيسه تملكاً قوياً، قام وخط بيده أبياتاً على سجيته، وركب ألفاظها ونمقها بحسب ما استطاع، ليقدمها هديةً أمام شيخه المحبوب، عساها أن تشفع له عنده، ليتعرف من خلالها على لواعجه الشديدة، ومشاعره الجياشة .. فكانت هذه الأبيات، أبقيتها على هيئتها ولم أغير منها حرفاً أو تركيباً، لتكون شاهدة على زمن مضى. ولأنها قد تشرفت بأن استمع لها الشيخ أبوالحسن وأثنى عليها وعلى قائلها، فكان ذلك إيذاناً بقبولها إن شاء الله، وله الحمد ..
الأبيات:
هبُّوا بني قَومي ولبُّوا دَعْوتي وقِفُوا بإجْلالٍ لشَيخِ الندْوةِ
حيُّوا معي شيخَ العلُوم بعَصْرنا السيِّدَ النّدْوي سليلَ العتْرةِ
هذا أبُوحسَنٍ عليٌّ شيخُنا هذا إمامٌ من رِجَال الدعوةِ
من قامَ للدِّينِ الحنيف مجاهِداً ومناضِلاً بالقَولِ ثم بحكمَةِ
قد سارَ في درْبِ الحياة مكَافِحاً يسْعَى بجِدٍّ سائراً بعزيمَةِ
قدْ أخلصَ النياتِ في أعْماله ومضَى إلى ساحِ الجهادِ بعَزْمةِ
فجِهادُه في نصْرِ دينِ محمّدٍ وكفاحُه في لم شعْثِ الأمةِ
بيراعِه سالتْ دماءُ محابرٍ وغزَا ميادينَ العلُومِ بفكرةِ
قلمُ الحكيم إذا انبرَى لكتابةٍ يضْفِي على الأفهامِ نُورَ بصيرةِ
يا شيخَنا النّدْوي إليكَ تحيةً يا أيها السَّاعي لنصْرِ السُّنةِ
يا أيها الداعي مقامُكَ رافعٌ لا يستطاعُ بلوغُه بسُهولةِ
فجهودكُم مشكورةٌ في سعيكُم ونضالكُم في شأن عزِّ الملةِ
أرجُو إلهي أن يطيل بقاءكُمْ ** ويمدَّكَ الرحمنُ منه بص