في صحيح البخاري من حديث أمير المؤمنين سيدنا عليّ - رضي الله عنه - " أن فاطمة - رضي الله عنها - اشتكَتْ ما تلقى من الرَّحى مما تَطحن، فبلَغَها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بسَبْيٍ، فأتته تسأله خادمًا، فلم تجده، فذكرَتْ لعائشةَ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرَت ذلك عائشة رضي الله عنها له.
يقول سيدنا عليّ: فأتانا وقد دَخلْنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما، حتى وجدتُّ برد قدَميه على صدري، فقال: ألا أَدلكما على خيرٍ مما سألتماه !! ، إذا أخذتُما مضاجعكما، فكبِّرا الله أربعًا وثلاثين، واحمَدا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين؛ فإن ذلك خيرٌ لكما مما سألتماه ".
******************
لاحِظ هنا عدة أمور :
الأول : بنت سيدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق وأعظمهم وأفضلهم على الإطلاق - تعمل في بيت زوجها ، وتقوم بأعباء المنزل، وتطبخ وتكنس ، بل وتطحن، والذين يعملون في المطاحن يحدثونكم عن صعوبة هذا الأمر ومشقته ، كل ذلك بلا تذمُّر ولا غضاضة؛ لأن بيت زوجها هو نفسه بيتها بلا فرق .
الثاني :
أنها لم تذهب إلى أبيها - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن أجهدها العمل، وبلغ منها الجهد مبلغا كبيرا ، يعني أنها لم تجد عليًّا زوجها - رضي الله تعالى عنه - يطلب منها أن تطحن فرفضت وغضبت وقالت له : كيف تأمرني بهذا العمل الشاق وأنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - !!
بل عملت حتى لم يعد لها طاقة ثم ذهبت إلى أبيها عليه السلام.
الثالث :
أنها لم تذهب إلى بيت أبيها متذمرة غاضبة ، بل كل ما طلبته أن يجعل لها خادما، هذا فحسب ، وهكذا بنات الكرام ، لا يشكين الأزواج ولا يُفشين الأسرار.
الرابع :
أنها اختارتِ الوقت المناسب الذي تطلب منه - صلى الله عليه وسلم - الخادم ، انتظرت حتى عرَفتْ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ببعض السبي من إحدى غزواته، يعني صارت الأمور فيها انفراجة، وأصبح فيها سعة ، يعني لم تكن عبئا عليه ، ولم تسبب له حرجا ، ولم تضعه في مأزق بكثرة طلباتها في الأوقات غير المناسبة .
الخامس :
أنها طلبته في بيته فلما لم تجده رجعت بسرعة إلى بيت زوجها ، مع أنها كان يمكنها أن تنتظره حتى يرجع ، وفيه أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ثم لا تطيل ، وليس معنى جواز خروجها أن تذهب وتتسكع هنا وهناك وتقضي الأوقات الطويلة خارج البيت .. بل على قدر الحاجة فحسب .
السادس :
أدعك تتأمل الجمال في قول علي - رضي الله عنه - " حتى وجدت برد قدميه على صدري " وما فيه من السكينة والأمان والاطمئنان الذي يبعثه قدوم حضرة سيدنا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السابع - وهذا مهم - :
لم يأتها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخادم الذي طلبته، بل أرشدها وزوجها إلى عمل آخر تتأتى به الاستعانة على هذه المشاق، وهو التسبيح والذكر ، فدل ذلك على منفعة الالتجاء إلى الله تعالى وعلى منفعة التسبيح والدعاء في تسهيل الأعمال الحسية الصعبة فضلا عن الطاقة الروحية والقوة المعنوية وحصول المدد الرباني في الجسد والروح.
اقرأ إن شئتَ قوله تعالى " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ..... " ولاحِظ أن الفعل " يُرسل " مجزوم في جواب الأمر ، يعني هو مترتب عليه ومتسبب عنه ، فالمراد : إن تستغفروا يرسل السماء عليكم مدرارا ، وإن تستغفروا يمددكم بأموال وبنين.
أما العلاقة الفيزيائية والرياضية بين الاستغفار وحصول هذه الأمور فهذا ما تعجز عن إثباته علوم البشر ، وصدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا !!! ومن أصدق من الله حديثا !!!
الثامن :
في قوله " فإن ذلك خير لكما مما سألتماه " .
طبعا ؛ لأن الخادم يضجر ويتعب ويمرض ويموت، أما الاستعانة بالله تعالى على تيسير هذه الأعمال فهي مظنة حصول المدد الإلهي الذي لا ينقطع إن شاء الله، وشرطه أن يرى الله في طالبه الصدق وحسن التوجه والتوكل.
فهذه ثمانية أمور - على عدد أبواب الجنة - قد فهمتها من الحديث ، وأسأل الله أن تكون كلها صوابا، وقد يكون هناك في الفقه الإسلامي وبعض المذاهب الفقهية المعتمدة ما يُخالف شيئا مما قلتُه هنا، لكن الفقهاء ينظرون لمثل هذه الأمور نظرة مختلفة؛ لأن الفقيه يعتبر ما يَسقط به الحَرج، ونحن هنا أردنا ما يحصل به الكَمال.
وختاما ..
لا ينبغي أن يُفهم من هذا تشجيع الأزواج على التجبُّر على زوجاتهم، ولا تصييرهنّ مساخرَ وخَدَمًا، بل الأزواج مطالبون معهن بحسن العشرة وجميل المعاملة، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
فقط أردتُّ أن ألفت النظر إلى أن بنات الطاهر الكريم العظيم - صلى الله عليه وسلم - يتحملنَ ما تأنف نساء اليوم من عملِ ما هو أقلُّ منه بمراحل كثيرة .
والسعيد من أسعده الله .