الإنسان ليحس وهو يتحدث بأن الكلمات تنساب جميلة من بين شفتيه»، والحق في ما شهد به أمثال هؤلاء.
والأمر الآخر أن الأستاذ الشيخ كان يتولى بنفسه مساعدتهم في تسهيل مهامهم التي أتوا لأجلها، لدرايته بمدى قيمتها، ووعيه بأهميتها، والطبيبة الألمانية إيفا هويك هي من شهدت لابن سميط بذلك بلسانها في مذكراتها، حيث قالت:
"كنت أتحدث إليه دائماً عن صحة الطلاب، وأتفق وإياه على ضرورة صرف زيت السمك لهم؛ إذ إن أكثر من نصفهم تقريباً كانوا يعرض فيهم علامات النقص في التغذية, كالجفاف الذي يطرأ على جلد اليدين والقدمين".
وليس هذا وحسب، بل كان السيد ابن سميط هو من يتولى، على جلالته، نقل طلبة المدرسة المرضى إلى المستشفى؛ لعرضهم على الطبيبة الأجنبية، ومساعديها الأوروبيين، حسب ما ورد في تلك المذكرات المنشورة.

رابعها) قبول المستحداث، واستيعاب ما يستجد من أفكار عصره:
كثيرًا ما اعتدنا التنفير المؤسف من كثير من الوعاظ لما يستحدث من مخترعات، أو يستجد من أفكار؛ متعللين بقدومها من الغرب الكافر، ومغلبين لجانب السوء فيها، وينذرون مستمعيهم بالويلات في دنياهم، والخسران في أخراهم، إذا هم اقتنوها واستعملوها، لكن الراسخون في العلم يتثبتون في شأنها، ويتفكرون في أمرها، فيجتنبون الرفض المطلق، والحكم المستعجل، ثم يشيرون باتخاذها واستعمالها منبهين إلى ما بها من محاسن للاستفادة منها، وإلى ما بها من مساوئ لتجنبها في البداية، ثم للإسهام في تنقيتها، وفي تكييفها مع طبيعة المجتمع العربي والمحلي.
وكان من شأن الأستاذ الشيخ ابن سميط الاستجابة لمقتضيات العصر في أكثر من جانب في حياته العملية، ولاسيما في العمل التربوي، كاستجابته للتعليم العصري المنتظم، وتدريس مقرراته المنهجية، والعمل بطرقه الحديثة، بل أسهم في تقبل المجتمع الشبامي لها، كما شهد له بذلك مفتش المدارس القعيطية آنذاك التربوي الرائد علي محفوظ باحشوان، المعروف بعلي حورة (ت 2020).
ومن ذلك أيضًا تجاوب الأستاذ الشيخ مع سبل العلاج الطبي المستجدة من الغرب، رغم إعراض كثير من فئات المجتمع عنها، جهلا بفائدتها، وتوجسًا من القائمين عليها، فكان المعلم ابن سميط هو من يتولى نقل من يمرض من طلاب مدرسته للمستشفى؛ استشعارًا للمسئولية، ولأنه كما تقول الطبيبة الألمانية: "ندُر أن يأتي أي منهم بدافع تلقائي من ذاته"، مما يدل على نفور أهاليهم من هذا النوع المستحدث من العلاج، وكان ابن سميط يقصد من ذلك أن ينقل هؤلاء الطلاب التجربة الجديدة إلى أهاليهم، وهو ما كانت تفعله الطبيبة التي مكثت في شبام خمس سنوات، وقالت: "كنا ننشر عن طريق هؤلاء الطلاب ما نريد من معلومات يتولون نقلها إلى ذويهم". وبهذه الأسلوب غير المباشر أسهم ابن سميط في نشر وعي صحي حديث في مجتمعه الشبامي.
وتمثلت هذه السمة كذلك في الأسلوب الحي والمعبر الذي اختاره ابن سميط في كتاباته، وحضور المفردات الحديثة والمفاهيم العصرية، التي كان يتداولها جيله من الرواد، في تلك الكتابات، ومن ذلك مصطلحات (الإنسانية)، و(العمل الإنساني) التي صارت كثيرة التداول في الخطاب الإعلامي والفكري الحديث، وقد وردت في خطابه الوداعي المكتوب الذي وجهه إلى الطبيبة الأجنبية حيث كتب لها: "يا من كنت مثلا مشرقًا للإنسانية الحقة"، ووصف عملها بأنه "عطف إنساني".
ومن يطالع بعض وثائقيات مدرسة الفلاح التي كان يديرها ابن سميط، بوعي واستيعاب لرسالته التربوية، يراها تكتظ بمثل تلك المفردات والمفاهيم الحديثة في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن العشرين كمفاهيم (الوطن، والثقافة، والمستقبل، والأمم الحية، والشعوب الناهضة)، وعبارات حية من مثل (تنوير أفكار الشعب)، و(جهاد الأبطال في حومة الوغى العلمية)، و(نشر العلوم وبث العرفان بين أبناء البلاد على اختلاف طبقاتهم)، وغيرها.
ومن ذلك أيضًا تفهم الأستاذ الشيخ ابن سميط لدور ورسالة فن المسرح، باعتباره وسيلة حديثة من أجل التوعية والتنوير، حيث كان العمل المسرحي حاضرًا في المناسبات التربوية والدينية التي تحييها المدرسة التي كان يديرها، وكان بعضها مقتبس من نصوص مترجمة من الأدب الأوروبي، ومن ذلك تمثيل طلبة المدرسة لمسرحية (العاصفة) سنة 1961، وهي مقتبسة من إحدى الأعمال المعروفة للأديب الإنجليزي وليم شكسبير.

الخاتمة:
اتضح من ما سبق ذكره مدى تحقق وصف الشيخ والمعلم عبد الله مصطفى بن سميط بأنه أحد من جمع بين كفتي ميزان العلم الديني والثقافة الملتزمة، وكان ذلك حصيلة دراسة جادة تلقاها، واطلاع واسع من مكتبة انتقاها، فتوازن في علمه، وفي معاملته، وفي نظرته لعصره، وحقق الرضا التام بين حاجات الروح في سموها، ومتطلبات النهضة في علوها، فسعد به البيت والبلد بما نشره من علوم غمر بها المسجد والمنبر بالكلمة الناصحة، وأرساها في المدرسة والدفتر بالقدوة الصالحة، وأسسها في مجتمع شبام حتى سمت بإنسانها، كما علت ببنيانها.
#الذكرى_51_لرحيل_العلامة_عبدالله_مصطفى_بن_سميط
النوع الثالث: كتب علماء شبام خاصة:
متن فتح الرحمن لابن زياد الزبيدي، وزياداته للحبيب احمد بن عمر بن سميط المتوفى 1257هـ.
ديوان وقصائد الشيخ أحمد بن عمر باذيب المتوفى بسنقفورة سنة 1268هـ تقريباً.
كفاية الخائض في علم الفرائض، للشيخ سالم بن عبدالرحمن باصهي الشبامي المتوفى بشبام سنة 1336هـ.

ثانيا: المنهج التطبيقي العملي
أفضنا في الحديث عن الجانب العلمي التعليمي .. والان يطيب لنا الانتقال إلى الجانب الآخر من منهجية السيد عبدالله بن مصطفى بن سميط في تربية وتعليم طلابه، ألا وهو الجانب العملي التطبيقي.
فمن ذلك: حرصه على تطبيق الصغار أحكام الوضوء، وعلى حضور صلاة الجمعة في المساجد، فكان يصرف الطلاب من المدرسة، بعد انتقالها من زاوية المسجد الجامع إلى موضع المدرسة الحكومية الحالي، يصرفهم إلى مسجد معروف الشهير باسم (معروف الطالعي) الذي يقع داخل البلاد مقابل المدخل الرئيسي (السدة)، فيقوم الأساتذة وكبار الطلاب بمراقبة الصغار في وضوئهم وصلاتهم، ليتدربوا على إتقان العبادة الواجبة، ويكونوا في غاية من الأدب والالتزام. وهذا من أبلغ وأهم الدروس العملية التي تفيد الصغار والمبتدئين في الانضباط الديني والأخلاقي.
ومن ذلك: توجيه الطلاب إلى حضور حزب القرآن الكريم في المساجد في وقت مابين المغرب والعشاء. وحضور مجلس الذكر حيث يقرأ (راتب الإمام الحداد) قبل أو بعد أذان العشاء، ومعلوم أن هذا الراتب يشتمل على أهم المهمات من الأذكار التي تحفظ المسلم وكلها أدعية مباركة من صحيح السنة النبوية الشريفة.
ومن ذلك: أمر الطلاب بالصلاة جماعة عقب الانتهاء من حزب القرآن، قبل صلاة المسجد، ليرى الآباء والأساتذة تطبيق أولادهم وطلابهم أحكام الصلاة وتلاوة القرآن. ثم ينصرف الطلاب إلى بيوتهم، وقد يجلس بعضهم ويصلي مع جماعة المسجد إذا كان ينتظر والده مثلا.
ومن ذلك: تدريب الطلاب على الخطابة والوعظ، ولا سيما عند قدوم ضيف إلى المدرسة أو الزاوية، وكان السيد عبدالله يقوم بإعداد الخطب القصيرة ويقوم كل طالب بدوره في الخطابة أسبوعياً، بحسب جدول مسبق يتم إعداده.

خلاصة البحث ونتائجه
نستنتج مما تقدم أن مقررات التعليم والمنهج الذي اتخذه السيد عبدالله بن مصطفى بن سميط كان منهجاً تعليمياً متكاملاً، اشتمل على المواد الدينية والعربية الرئيسية، التي يتخرج الطالب الدارس لها قوياً في معرفته بدينه الإسلامي، ولسانه العربي، ويتيح له فرصة كبيرة لمواصلة التعلم لمن أراد، كما أنه كان يعطي قاعدة قوية وصلبة لمن انخرط من أولئك الطلاب في الحياة العملية واتجه إلى العمل الخاص أو الوظيفة. وقد عهدنا ورأينا كبار طلابه ممن مارس الوظائف أو زاول الأعمال التجارية من الأسر الكريمة كآل باعبيد، وآل عقيل مسلم وآل شماخ، وآل باذيب وآل باجرش، وآل جبران، في شبام والمكلا والشحر عدن والحديدة والخليج.
وهناك قوائم بأسماء كبار تلامذته وطلابه الذين درسوا عليه في أوج نشاطه، قيد أسماءهم في دفاتر التحضير المحفوظة لدى أبنائه وورثته، وهي جديرة أن تدرس وتنشر لأنها تمثل ركيزة أساسية في تاريخ التعليم في حضرموت في القرن الرابع عشر الهجري، بل إنها تشكل نموذجاً مشرفاً من نماذج التعليم في العالم الإسلامي بأسره.
ولو أردنا أن نذكر بعض أعلام تلاميذه، فإننا نجد منهم من تبوأ مناصب علمية أكاديمية أمثال الفقيه العالم الدكتور الأصولي صالح بن سعيد باقلاقل خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وابن عمه العالم الفقيه الشيخ محفوظ بن مبارك باقلاقل. ومنهم من أصبح أديباً شاعراً أمثال الشيخ الأديب أبي بكر بن سعيد لعجم والشيخ الفقيه الأديب محمد جبران، ومنهم من أصبح كاتباً ومؤرخاً أمثال الأستاذ الشيخ عمر أبوبكر باذيب. ولا ننسى في هذا السياق أبناءه الكرام، السيد عبدالقادر الذي درس إدارة الأعمال وانخرط في وظائف إدارية في أبوظبي، وابنه مصطفى العالم المتواضع الذي وافته منيته في المدينة المنورة، ثم ابنه الصحفي اللامع الأستاذ علوي أحد مشاهير الصحافة في عموم اليمن وفي الجنوب العربي على وجه الخصوص.
هذه نماذج مشرفة، تخرجت من تحت يد ذلك العالم الفذ، كان لهم خير دليل وموجه ومرب، فأثمر تعليمه وتربيته ثمرات مباركة آتت أكلها.
هذا ما تيسر لي جمعه في هذه العجالة، وأرجو من كل قلبي أن يتم تكريم هذا العالم الجليل، والكتابة عنه بصورة أشمل وأدق وأوسع .. فإن له ديناً في رقاب الكثيرين، وما أجمل تكريم العلماء من قبل أهالي بلادهم ولاسيما تلاميذهم وعارفي أقدارهم، فالبر سلف، وتعظيم أهل العلم من شعائر الدين.
والحمدلله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

محمد أبوبكر باذيب
تحريرا في جدة، 17 رجب 1442هـ
#الذكرى_51_لرحيل_العلامة_عبدالله_مصطفى_بن_سميط