#فلسفة_نيتشه

من كتاب #العلم_المرح

مقتطفات من كتاب "العلم المرح" لفردريك نيتشه ( الجزء الأول)

" أطباء الهدف من الوجود"

- حاولت عبثا تأمل الناس مليا باستحسان أو باستقباح، جميعا وكل واحد على حدة، ولم أبصرهم أبدا إلا وهم مثابرين على شغل واحد : العمل على ما هو مفيد لحفظ النوع.

وهذا الأمر في الحقيقة لا يعود للاحساس بالحب تجاه هذا النوع (البشري)، ولكن فقط لأنه لا شيء أكثر تأصلا، قوة، تصلبا ويستحيل قهره أكثر من هذه الغريزة.

ذلك أن هذا الإحساس الفطري هو أصل النوع القطيعي الذي هو نحن، على الإطلاق. فبمجرد ما نشرع، بقصر النظر المألوف، في تصنيف الأنواع، بحسب العادة، إلى أناس نافعين وضارین، طيبين وأشرار، يحدث بعد تحليل عميق وتفكير حصيف في مجموع الإجراء ، أن يداخلنا الشك في نمط هذه التصفية وهذا الفصل، وفي النهاية نصرف النظر عن ذلك.

إن الإنسان، حتى الأكثر ضررا، ربما كان الأكثر أهمية من جهة الحفاظ على النوع ، ذلك أنه يغذي بداخله أو بفاعلية تأثيره ، عند الآخرين، إغراءات كانت البشرية من دونها ستكون منحلة ومنحطة من أمد بعيد. إن الكراهية، الفرح لتعاسة الآخرين، الظمأ للسلب والسيطرة، وكل ما ينعت بالفظ : كل هذا يتعلق بالادخار المدهش لحفظ النوع، بالادخار الباهظ والمسرف، دون ریب؛ وبالجملة، بالادخار الغريب بشكل مدهش .

- لا أعلم يا نظيري، وقريبي، كيف يمكنك أن تحيا إطلاقا بمضرة البشر، أي بطريقة «لا معقولة» ، «شنيعة». إمتثل لأحسن أو أقبح رغباتك، وقبل كل شيء : كن فانیا ! في هذا الخيار أو ذاك، بطريقة معينة، ستبقى بوجه الاحتلال مؤسسا، ولي نعمة الانسانية، وبهذه الصفة سیکون لك الحق في مادحيك بقدر مزاح محتقريك !

غير أنك لن تجد أبدا من يستهزيء بك، أنت الانسان الفريد، ولو بما فيك من تفوق، ويشعرك ، كما تفرضه الحقيقة ، بما فيك من بؤس الذبابة والضفدع !

في الواقع، لمعرفة كيف نضحك من أنفسنا، كما يليق بنا أن نضحك، لكن بضحك ينفجر من عمق الحقيقة المطلقة ، فالأذهان المتفوقة لا تملك حتى الآن القدر الكافي من حس الحقيقة، والأكثر موهبة منها، دون الكفاية من النبوغ ! ترى هل سيكون للضحك مستقبل أيضا ! وذلك عندما تكون أطروحة : «البشر هو الكل ,أما المفرد فلا أحد»، متجسدة في الانسانية ، ويكون هذا التحرير النهائي، هذه اللامسؤولية الأخيرة سهلة البلوغ لكل إنسان.

ربما آنذئذ سيكون الضحك حليفا للنبوغ، ولن يكون هناك علم آخر باستثناء «العلم المرح».

- غير أن الأمر في الآونة الراهنة بخلاف ذلك تماما، فكوميديا الوجود لم «تعي ذاتها» بعد ونحن لم نزل في عصر التراجيديا، في عصر الأخلاقيات والديانات
. ماذا يعني الظهور المتجدد دائما لهؤلاء المؤسسين للاخلاقيات والديانات، للمحرضين على المقاومة من أجل انتصار المعايير الأخلاقية، لأطباء حالات الوعي وحروب الديانات، هؤلاء ؟ ماذا يعني هؤلاء الأبطال على هذه الخشبة ؟

- ذلك أنهم كانوا إلى ذلك الحين أبطال هذا المشهد ذاته، والآخرون الذين ظلوا وحدهم، لفترة ، ظاهرین ومباشرين فوق الحد، لم يصلحوا أبدا إلا لتهييء هؤلاء الأبطال، إما کمالیات وكواليس، وإما لأدوار المؤمنين على الأسرار والفاشين. فالشعراء مثلا كانوا دائما فراشي أخلاقيات معينة

- إذ مسلم به أن ممثلي المآسي هؤلاء يخدمون أيضا لصالح البشرية، مع أنهم يعتقدون أنهم يخدمون لصالح الإله، وكمبعوثين من طرفه. هم بدورهم يشجعون حياة البشرية، بتشجيعهم الإيمان بالحياة. من الأهمية بمكان أن نحياها - هكذا يهتف كل واحد منهم، هذه الحياة تعني شيئا ما، شيئا ما عقبها، تحتها، احذروا ذلك !.

هذه الغريزة التي تفعل بانتظام في الانسان الأكثر سموا كما في الانسان الأكثر دناءة ، غريزة حفظ النوع، تظهر، في أوقات متباينة، في هيأة العقل وشغف الروح، فتلفي نفسها آنئذ، مدعومة بمبررات أخاذة، ثم تنزع إلى السهو ما أمكن، عن أنها في الحقيقة مجرد إندفاع، غريزة، حماقة وغنعدام أساس. الحياة تقتضي عشقا، لأن ...! الانسان يقتضي أن يشجع نفسه وأن يشجع قريبه، لأن ...! ومهما تكون التعاريف الآنية والمستقبلية وكل هذه التقتضي، لكل هذه ال(لأن ) !

👇
وآنذاك، وحتى لا يبدو من الآن فصاعدا ما يحدث بالضرورة وباستمرار من تلقاء نفسه ودون أي هدف، منشأ في هدف محدد ويكسب الإنسان وضوح الذهن والناموس الأخير . فإن طبيب الأخلاقيات يلج المسرح، بعقيدته أن الله «هدف من الوجود»، لذلك يختلق واحدة أخرى، أي وجودا ثانيا، وبواسطة تركيبه الجديد يخرج الوجود القديم، المبتذل، عن أطواره البالية و المبتذلة، أكيد أنه لا يريد إطلاقا أن نسخر من الوجود، ولا من أنفسنا أو من نفسه على الأقل، فبالنسبة له يظل الكائن دائما کائنا، شيئا من الأول والأخير والعظيم أيضا، ليس هناك ، في نظره، نوع، كميات ، أصفار قط.

وبقدر ما تبلغ اختلاقاته وتقديراته من الحماقة والهذيان، بقدر ما يغالي في تجاهل سيرورة الطبيعة ونكران شروطها .

وكل الأخلاقيات كانت على الدوام خرقاء وضد الطبيعة لدرجة أنكل واحدة من هذه الأخلاقيات كانت قادرة على تقويض الانسانية لو أنها ثبتت سيدة لها ..لكن ! مع كل ولوج جديد «للأبطال» على الخشبة، يكون شيء جديد ماقد تم اكتسابه : الرأي المخالف الشنيع للسخرية ، هذه الرجة العميقة للكثير من الأشخاص مع هذه الفكرة : «أجل، ، من الأهمية بمكان أن نحيا ! أجل، أستحق أن أحيا !»

- الحياة ، أنا كذلك، أنت ونحن جميعا قد أصبحنا البعض للبعض الآخر، مفيدين ثانية، لبعض الوقت - يقيني أنه علي التمادي وحتى إشعار آخر للضحك، إنتهى العقل والطبيعة بالانتصار على كل واحد من أطباء «الهدف» هؤلاء : فالتراجيديا القصيرة لم تكف عن أن تعبر وتعود إلى كوميديا الوجود الأبدية ، ويجب أن ترتد في النهاية أمواج الضحك أيضا إلى أكبر هؤلاء التراجيديين.

ولكن على العموم، بالرغم من كون كل هذا الضحك ناجعا للإصلاح، فإن عودة الظهور الدائمة لأطباء الهدف من الوجود لم يكن لها أدنى مفعول لتحويل الطبيعة الإنسانية - هذه الطبيعة ستفتقر من الآن فصاعدا إلى شيء آخر، وبالضبط الحاجة إلى العودة الدائمة لظهور أطباء مماثلين، لظهور مذاهب «هدف» مماثلة.

- لقد أصبح الانسان بشكل غير محسوس حيوانا غريب الأطوار، وأكثر من أي حيوان آخر، وجد نفسه مجبولا على تلبية شرط وجود : يجب على الانسان، من وقت لآخر، أن يعتقد أنه يعرف لماذا هو موجود، ولا يستطيع نوعه البشري أن يزدهر دون ثقة دورية في الحياة ! دون إیمان بالعقل في عقر الحياة ! وعلى التوالي سيأتي زمن حيث سيفتي الجنس البشري أنه : «يوجد شيء ما لا يستحق أن نضحك منه! » وصديق الجنس البشري، الأكثر تبصرا سيضيف : «ليس الضحك والحكمة المرحة فحسب، هما مايراه ضمن عدد وسائل وضرورات حفظ النوع ، بل المزاج التراجيدي أيضا بغباوته التي لا توصف»!

- وبالتالي ! النتيجة ! لكن هل فهمتم ما أردت قوله أيها الرفاق ؟ هل فهمتم هذا القانون الجديد للمد والجزر ؟ فنحن أيضا سيكون لنا موعدنا !

- فريدريك نيتشه
- من كتاب #العلم_المرح أو (تسمية أخرى) #العلم_الجذل