رابعاً:
اقرأ شيئاً من خُطب العرب ورسائلهم، ومناظراتهم في أسواقهم وحروبهم ومجامعهم، ووصاياهم لأبنائهم وإخوانهم؛ لتعرف كيف كانوا يتأنقون في نثرهم كما كانوا يتأنقون في شعرهم؛ فإن نثر العرب لا يقل عن شعرها جمالاً وألقاً وحكمةً.. وقد جمع الأستاذ/ أحمد زكي صفوت، شيئاً كثيراً من خطب العرب ومناظراتهم ووصاياهم ومفاخراتهم في كتابه (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في ثلاثة أجزاء.. كما جمع رسائلهم في كتابه (جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في أربعة أجزاء.. وفيهما كفاية في هذا الباب إن شاء الله.
خامساً:
اختر كتاباً من كتب المدونات الجامعة في الأدب واللغة واقرأ ما تيسر لك منها، ولا تقفز من كتاب إلى كتاب فإنك إن قفزت ضيعت الأول ولم تُدرك الثاني، أما الثالث فَسَتَكُفُّ به عن القراءة لشعورك بالتيه بينها.. فالتزم كتاباً واحداً في خريطتك هذه؛ فإن أنهيته فابدأ بالثاني.. وهكذا دواليك.. ومن هذه الكتب: البيان والتبيين للجاحظ، أدب الكاتب لابن قتيبة، الأمالي لأبي علي القالي، الأمالي للشريف المرتضى، العقد الفريد لابن عبد ربه، الكامل للمبرد، زهر الآداب للحصري... وكثيرٌ غيرها يكاد يستعصي على الحصر.. وليس الغرض هنا الحصر، بل الإشارة.. وإلا فإن كل فن من فنون العربية فيه من الكتب ما يستعصي على الحصر.. والغرض استنبات الذائقة بعد موات أو غرسها إن لم تكن..
ثم احذر كل الحذر- حين تقرأ هذه المدونات- مِنْ أنْ تظن أن كلَّ ما فيها صحيحٌ مُسلَّمٌ بصحته.. فهي- في غالبها- ليست كتبَ أسانيد ولا روايات مسانيد يتوخى فيها صاحبُها الصوابَ والصحة؛ بل اللغةََ والأدبَ والحِكَم والأخبار والمواعظ والمتعة.. وهذا ضَربٌ دَخَلَهُ كثيرٌ من الانتحال والكذب والتوسع في الرواية على عادة القُصَّاص في المساجد والمنتديات والمقاهي.. فلا تطيرنَّ بما تقرأ فيها كل مطار؛ فتستدل بواقعة من وقائعها أو خبر من أخبارها على صحة رأيٍ أو بطلانه إلا إن ثبتت في غيرها من كتب الرواية المسندة.. واعلم أن غرضك اللغة وتذوقها؛ فإن حصل الغرضُ بالصحيح المُسند فهو خيرٌ وبركة، وإن اختلط بعض الصحيح ببعض الزائف أدركتَ غرضك وحفظت عقلك من الزيف.. وفي بعض هذه الكتب ما ينافي الدين والخُلق وما تعارف عليه الناس من حياء وتذمم وتأثم.. والناس مذاهبُ شتى، والبشر على ما هُم مُذ كانوا.. فيهم الصالح التقي والفاسد الغَويّ.. فتخير لنفسك ما يُصلحها وجَنِّبها ما يُفسدها.. ثم لا بأس عليك أن تقرأ الكتاب الذي تُحقق به غرضَكَ ولو كان فيه (بعض) سوء إن رأيتَ في نفسك حصانة وتحصيناً، ولا توغل في ذلك فتصير كطالبِ سوءٍ يُعلل نفسه بتحقيق الغرض.. فإن السوء حلوٌ طعمُه مُرةٌ عاقبته!!
ثم أما بعد..
فلا يهولنك ما ترى.. ولا تقولن لنفسك كيف أقرأ كل هذا.. ومن أين آتي بالوقت لكل هذا.. فوالله إن هذا لن يأخذ من وقتك أكثر من ساعتين.. وربما أقل.. إن جزءاً واحداً من القرآن الكريم.. وثلاثة أحاديث نبوية شريفة.. ومقطوعة أو مقطوعتين من شعر العرب.. وخطبة أو خطبتين من خطبهم ورسائلهم.. وصفحة أو صفحتين من كتب المدونات الأدبية واللغوية.. لن تأخذ منك أكثر من ساعة أو تزيد قليلاً.. ألا تستطيع أن تحفظ ذائقتك بساعة من الزمن تُضيع ضِعفَها بل أضعافها فيما لا يفيد!!
ولا تستبطئن الثمرة.. فإني أعرف إخواناً بدؤوا بهذه الطريقة منذ عامٍ فأتموا بهذه الساعة: البيان والتبيين، والكامل، والحماسة، وخطب العرب بأجزائه الثلاثة.. وهم لا ينفقون من وقتهم أكثر من ساعة.. وبعضهم له كتاب يسميه (كتاب السرير) يختاره مما خف على النفس والروح كقصص العرب أو الأغاني للأصفهاني.. يضعه في غرفة نومه بجانب سريره، فإذا دخل غرفته فتح الكتاب نصف ساعة أو تزيد حتى يقع الكتاب على وجهه من النوم.. وبهذه الطريقة أنهى كتاب الأغاني في عامٍ تقريباً.. وبعضهم يعيش بهذه الطريقة منذ عشرين عاماً لا يكاد يُسقطها حضراً وسفراً.
ثم إنني بعد ذلك كله لا أكاد أعرف طريقة تستنبت الذوق والتذوق قراءةً وكتابةً مثل هذه الطريقة.. وعبثاً والله تطلب كتب النحو والصرف إن كان هدفك الذوق والتذوق.. بل إن هذه الطريقة ستعطيك- شيئاً فشيئاً- قواعدَ النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة وما شئت من قواعد كلام العرب وقوانينه المستخلصة.. ولا يعني هذا إهمال كتب النحو والصرف وأمثالها من كتب القواعد والقوانين، بيد أن المقصد أن غاية هذا غير غاية ذاك.. ولا تتم غاية هذا إلا بالحرص على المداومة على ذاك.
وأنتَ- بعد هذا كله- قمينٌ أن تقع في اللغة فتنهض بها حين توقع بك (ونعمت الوقيعة).. تماماً كما تقع في الحبِ فتَرِقّ به حين يقسو عليك.. (وما ألذها من قسوة)!!
نفعك الله ونفع بك.

----
#علي_فريد