[الـحــ14ــلـقـة]
💫الإمام أحمد ومحنته في عهد المعتصم
ينقل لنا عبد الله ابن الإمام أحمد على لسان أبيه ما ابتلى به في عهد المعتصم فيقول: لما أحضرني المعتصم من السجن زاد في قيودي، فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا المعتصم، فأُدخلت في بيت وأغلق على وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلى وعنده وزيره أبو دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل؟ فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلام دعا ابن عمك رسول الله ؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ فقلت: الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه. فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟وجرت مناظرات طويلة، حتى قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم، فقال لهم: ما تقولون؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروني في اليوم الثاني وناظروني أيضًا في اليوم الثالث وفي ذلك كله يعلو صوتي عليهم وتغلب حجتي حججهم.
فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدًا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، ليس كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلامًا يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأني لهم التناوش من مكان بعيد؟ وفي أثناء ذلك كله يتلطف بي الخليفة ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله حتى أجيبهم إليها. فلما أعيتهم الحجج قال إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمى المعتصم واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء فقال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجيبني.
ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.. فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجيء بالآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا فأغمى على وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود على عقلي، وقام المعتصم يدعوني إلى قولهم فلم أجبه وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلى فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلى الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قاله من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان في سنة 221هـ، وكان ثم أمر الخليفة بإطلاقي إلى أهلي)، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا وقيل ثمانين سوطًا، لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر فامتنع من ذلك وأتم صومه. ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله، فخشي أن يس