ت شعرها ملياً، فصار عندي شكّ في كل الخصلات وفي كل النساء أن يكونوا قد استعانوا بأسرار جمال تلك المدعبلة، والتي شاركتنا الفرح دون أن تدري فأطلقت من القاعة زغرودة عظيمة اخترق هديرها سكون الشارع وسكون القمر.
كل شيء في نور كان مذهلاً وربّانياً، وكأنها عاشت حياتها في عالم أخر بعيد، تتغذى فيه على غزلِ البنات وترتوي من ماء الزهر فقط!

مدت يدها الملائكية التي ترصّعت بجوزة الفولار، ومسحت بسحر أصابعها البديع جرحي فاختفى! ثم انتزعت ربطة العنق عنّي وحررتني كما في طفولتي، فلوّحت بها كراية انتصار على حرب امتدت طويلاً، بين جيوشِ لم يتقاتلوا.. ورمتها إلى أعالي الفضاء الرائق الذي كان يراقب هذا الجنون.

ثم لفّت كلتا ذراعيها حول عنقي وهمست في أذني بغنجٍ أنثوي قاتل:

-"لا تخنق أنفاسك قلتُ لكَ.. أريد أن أخنقها أنا"

فخنقتني حقاً.. وتبادلنا الخناق!

#انتهت_وشكراً

#Ahmad_Almulla
تشتت وبنقاء روحه يجلي طيف الضياع، ليمنحنا شرف إدراك الحياة ولمسها.. وكان في نور تحريض كبير للمسها!.

عادت الدنيا لصخبها، بعد أن ذابت تلك اللحظات الهادئة سريعاً بين انتباهات الصحو وخلسات الخيال، التقطتُ نور جزدانها من صديقتها بعد أن اتفقنا همساً الخروج من هنا لنكمل ثورتنا، وأنا ذهبت والتقطت أُذن العريس وسألته عن تلك السيدة اللئيمة المدعبلة والتي كفّت تواً عن وشوشته، امتقع وجهه ثم شزرها بنظرة توحي بالندم وقال بصوت أبح مخنوق:
-"حآتي!"
لاحظ أنّي لم أفهم بما باح به، فقام بفكَّ ربطة عنقه وأعاد "إنها حماتي.. حمااتي".
كم أحزنني حاله حينها، كان بودّي مواساته كما يجب وتهريبه من هنا، لكن نور معي وما من شيء في تلك اللحظة أهم عندي من نور، فقرصتُ خدوده المصفّرة حتى يعود الدم إليها، وذكّرته برقم هاتفي إن حدث معه أي طارئ، ثم دعوتُ له بطول العمر وحسن الخاتمة!

خرجنا نركض من القاعة بلباسنا الأنيق، كأبطال الفيلم الذي بنيت عليه تمردي الأول، لم نكترث للناس ولا لما سيؤول إليه أمر ثورتنا هذه، فقد أصبحت كبيراً وطويلاً ومن يجرؤ على إيقافنا فلدي من القوة والشر ما يجعلني أمزقه تمزيقاً وأهرسه تحت قدمي هرساً.. إلا عمّها!

كان الهواء لطيفاً نقيّاً والسماء رائقة وكان الشارع الخلفي للقاعة مغتسلاً بالهدوء، تعرج إليه بعض الأصوات والزغاريد متسللة من أهازيج الزفاف، فعرجنا معها. وفي حضرة السكون المضطرب والأضواء الكسلى التي تؤطر الشارع، عاد إلى ذهني ماقالته:

-"لا أحد يعرفني هنا لا تخف!"

بدأت أسأل نفسي، ما معنى هذا؟
هل ما سمعته هو كلامها أم أن خيالي هو من كان يحادثني؟ أو أن موطن شامتها قد أسكرني ولم أكن في وعيِّ حينذاك؟
توقفتْ نور فجأة.. كيف توقفت؟ كيف أتت؟ وكأنها كانت تنصت إلى داخلي فسمعتْ ما أفكر به، ثم أخرجت شيئاً من جزدانها وأخفته عني في باطن كفها، وقالت:

-"أريد الاعتراف لكَ، انتظر" .. وفي عينيها يتجلّى سرٌ ما!

#يتبع



#Ahmad_Almulla
#كازوزة_حمرة

صديقٌ عزيزٌ علَيَّ.. أنار الله نصف حياته فقط ونصف هناءه، حتى ساقَ لي ذلك الخبر السار؛ لقد دَهمهُ الحب أخيراً و التقى بمن أورت قلبه عشقاً فقرر لعلّها تنير نصفه المعتم الزواج منها، فدعونا له بالخير، وفي اليوم المقرر لإتمام ضيائه هذا حللنا عنده باكراً أنا والأصدقاء، لتجهيز هيئته وشحذ همّته قبل الانطلاق لقاعة الزفاف.. متمنين اللقاء به قريباً كاملَ البريق تامَّ العافية!

تذمّر ولا زلنا في بيته من ربطة العنق التي تُكبّل رقبته ورقابنا، يطلب شاكياً التخلي عنها وإتمام الزفاف دونها، لتأتيه إجابة ساخرة من مَن سبقه إلى هذا الضياء، ويبشّره بأنها البداية فقط فمعنى الزواج يتلخص هنا.. في ربط العنق. أما أنا فأكاد أنسى أحياناً أني أرتديها ولا مانع عندي من ربطها طوال اليوم، والنوم فيها أيضاً.

ويعود ذلك لطفولتي الزاخرة بالتجارب الضنكة والتي جعلتني أتأقلم مع هكذا أغلال، كانت أمي رغم عظمة حنانها تخنقني كل صباح بـ "الفولار" المدرسي، تشدّه على حلقي وتعصره لأقصى ما يرضيها ولأدنى ما يقتلني، كنت أترجاها أن تحلّه قليلاً لكي أتنفس وبذريعة ألّا يصبح مظهري كأولاد الشوارع، كانت ترمي ندائي عنها وتستمر في الغلّ حتى تلتصق تلك القطعة العظمية التي تسمى "الجوزة" بجوزة حلقي، فيُكتم صياحي عند التحام الجوزتين ويتحول لتضرّع داخلي ومناجاة روحانية.

كنت أتمنى أن أُصبح من هؤلاء الأولاد الذين يملكون ما أفقده أنا كل صباح من حرية ورفاه، لكنّي حينها كنت طفلاً محدود الإدراك غبياً، أمّا الآن فقد بغضتُ هذا التمني وسعدتُ بأنه لم يقع، فثُلة من أولاد الجيران الذين كانوا يربطون "الفولار" كيفما اتفق أو يتخلون عنه بأكمله أصبحوا أصدقائي، بعد أن تقابلنا في أضنك تجارب الطفولة وأكثرها تجولاً في ردهات الذاكرة، في حادثة تمرد قديمة أحياها الزمان الذي شهد عليها بعد سنين طوال في زفاف عزيزي الصديق! ولأنهم لم يتعرضوا للخنق في طفولتهم ها هم الآن يتجرعون المرَّ في كل لحظة تمر مع ربطة العنق.

كانت تلك الحادثة هي بداية تمردي على قوانين أمّي الصارمة، فتاة تقاربني في سنوات عمري القليلة وتجاورني في صفوف المدرسة، كانت هي سبب ثورتي الناعمة.. نسكن في نفس الحي واسمها نور.
ألفنا بعضنا بسرعة بعد تكرار لقائنا في طريق العودة المشترك، وبتنا نمضي معظم وقت الاستراحات معاً، نتقاسم الطعام المخبّأ في حقائبنا ونتبادل الأفكار الصغيرة التي كانت تجول في خواطرنا النقية، كل ذلك بغير علم أحد ولهذا فقد كانت باحة المدرسة هي سماءنا التي نحلّق فيها أحراراً.

وبعنفوان متمرد صغير قد مسّه الغرام قررت التحليق عالياً، والمبادرة بشيء أكثر حميمية وجرأة، فاخترت يوم دوامنا الأخير موعداً لهذا حيث القرار العائلي قد نصَّ على منحي في هذا اليوم بعضاً من حقوقي، ومنها دراجتي الهوائية التي كانت تنتظرني خلف بوابة المنزل، هرعت فوراً لأخذها بعد طلوعي من المدرسة وعدت مسرعاً إلى نور فأوقفتها في منتصف الطريق:
-"اصعدي"
-"إلى أين؟"
-"عازمك على كازوزة حمرة!"

حالة جديدة مررنا فيها ومرت فينا آنذاك، سعادة غريبة قد اكتشفناها. قدت الدراجة بسرعة كبيرة بعد تغلّبي على تمنعها الخجول وإجلاسها خلفي، الهواء ملأ صدرينا وتغلغل في شعري حتى تبعثر؛ أمي تغرس مشطها الناعم فيه مطلع كل يوم وتحرثه إلى أقصى يمين الدنيا لكنه يتمرد الآن.. ككل شيء فينا، كلباسنا المدرسي الذي يعيش قصة جموح لم يتنبأ بها يوماً، كشعر نور الذي يجري خلفنا مثل خيوط صباح شامس يطوف بين الحارات، ليشعل في دُجاها قناديل النهار.
بلغ صراخنا حدّه فصار الضحك يخرج من صدورنا بشهقة من صميم الروح، ودموع حلوة تشتتها لسعات الهواء.
-"لماذا لا تزال مخنوقاً؟"
-"أمي تخنقني لمصلحتي يا نور.. افهمي!"

مدّت يدها الملائكية التي تشّع حناناً كهبة سماوية تحمل معها بشارة الخلاص، سحبت "الجوزة" التي حفرنا عليها حروفنا الأولى ذات تحليقٍ، ورمت الفولار:
-"لا تخنق أنفاسك.. تحرر"

ثم وصلنا إلى محل خارج حيّنا صاحبه عجوز نحيل مفتول العظام، فضَّ الزمان له فاه وطوى ملامحه، فكانت لديه صعوبة في لفظ مخارج الحروف ومداخلها، يجاهد نفسه على النطق وحال كل كلمة يُطلق من أنفه زفيراً حاراً يتخلل في شعيرات شاربه الكثّ، ثم يلحس بلسانه المخضّل لثّته العارية.. ظننته سوف يبلعنا!

أشار إليَّ . . .

#يتبع
#نوستالجيا_كتابة

#Ahmad_Almulla
ء المزركشة ومحاطة بصديقاتها وأهلها ممن تلبّسن واصطبغن وتمايلن على أصوات الأغاني المبهجة. وبعد انزياح ارتياب الألوان وصوت الزغاريد عني، بدأتُ التركيز في الوجوه فأوقفتُ العزيز صديقي فوراً بخشونة في منتصف القاعة، وحدّقت بحزمٍ إلى عينيه اللتين زاغ فيهما الريب حينما أوقفته وبدأتُ الضغط على ذراعه.

كنت على يقين بأني ذات يوم سأراها وأننا سنلتقي معاً لنكمل ثورتنا وفيلمنا، فالحياة حكاية تُتلى علينا بتشويق إلهي يصيب بالدهشة، لها نهاية ننساب إليها بلحظات نسميها صُدف، وإن لم نصل إلى الصدفة التي نشاء في قُدرة المستحيل، فستصل هي حتماً إلينا حين تتقاطع حكاياتنا، في لحظة الممكن.. وكانت دهشة حياتي الكبرى ولحظة الممكن قد اجتمعوا في هذا الزفاف.
فها هي دقة القلب الأولى.. ها هي أنثاي الأولى.. ها هي نور!

#يتبع


#Ahmad_Almulla