#كازوزة_حمرة

صديقٌ عزيزٌ علَيَّ.. أنار الله نصف حياته فقط ونصف هناءه، حتى ساقَ لي ذلك الخبر السار؛ لقد دَهمهُ الحب أخيراً و التقى بمن أورت قلبه عشقاً فقرر لعلّها تنير نصفه المعتم الزواج منها، فدعونا له بالخير، وفي اليوم المقرر لإتمام ضيائه هذا حللنا عنده باكراً أنا والأصدقاء، لتجهيز هيئته وشحذ همّته قبل الانطلاق لقاعة الزفاف.. متمنين اللقاء به قريباً كاملَ البريق تامَّ العافية!

تذمّر ولا زلنا في بيته من ربطة العنق التي تُكبّل رقبته ورقابنا، يطلب شاكياً التخلي عنها وإتمام الزفاف دونها، لتأتيه إجابة ساخرة من مَن سبقه إلى هذا الضياء، ويبشّره بأنها البداية فقط فمعنى الزواج يتلخص هنا.. في ربط العنق. أما أنا فأكاد أنسى أحياناً أني أرتديها ولا مانع عندي من ربطها طوال اليوم، والنوم فيها أيضاً.

ويعود ذلك لطفولتي الزاخرة بالتجارب الضنكة والتي جعلتني أتأقلم مع هكذا أغلال، كانت أمي رغم عظمة حنانها تخنقني كل صباح بـ "الفولار" المدرسي، تشدّه على حلقي وتعصره لأقصى ما يرضيها ولأدنى ما يقتلني، كنت أترجاها أن تحلّه قليلاً لكي أتنفس وبذريعة ألّا يصبح مظهري كأولاد الشوارع، كانت ترمي ندائي عنها وتستمر في الغلّ حتى تلتصق تلك القطعة العظمية التي تسمى "الجوزة" بجوزة حلقي، فيُكتم صياحي عند التحام الجوزتين ويتحول لتضرّع داخلي ومناجاة روحانية.

كنت أتمنى أن أُصبح من هؤلاء الأولاد الذين يملكون ما أفقده أنا كل صباح من حرية ورفاه، لكنّي حينها كنت طفلاً محدود الإدراك غبياً، أمّا الآن فقد بغضتُ هذا التمني وسعدتُ بأنه لم يقع، فثُلة من أولاد الجيران الذين كانوا يربطون "الفولار" كيفما اتفق أو يتخلون عنه بأكمله أصبحوا أصدقائي، بعد أن تقابلنا في أضنك تجارب الطفولة وأكثرها تجولاً في ردهات الذاكرة، في حادثة تمرد قديمة أحياها الزمان الذي شهد عليها بعد سنين طوال في زفاف عزيزي الصديق! ولأنهم لم يتعرضوا للخنق في طفولتهم ها هم الآن يتجرعون المرَّ في كل لحظة تمر مع ربطة العنق.

كانت تلك الحادثة هي بداية تمردي على قوانين أمّي الصارمة، فتاة تقاربني في سنوات عمري القليلة وتجاورني في صفوف المدرسة، كانت هي سبب ثورتي الناعمة.. نسكن في نفس الحي واسمها نور.
ألفنا بعضنا بسرعة بعد تكرار لقائنا في طريق العودة المشترك، وبتنا نمضي معظم وقت الاستراحات معاً، نتقاسم الطعام المخبّأ في حقائبنا ونتبادل الأفكار الصغيرة التي كانت تجول في خواطرنا النقية، كل ذلك بغير علم أحد ولهذا فقد كانت باحة المدرسة هي سماءنا التي نحلّق فيها أحراراً.

وبعنفوان متمرد صغير قد مسّه الغرام قررت التحليق عالياً، والمبادرة بشيء أكثر حميمية وجرأة، فاخترت يوم دوامنا الأخير موعداً لهذا حيث القرار العائلي قد نصَّ على منحي في هذا اليوم بعضاً من حقوقي، ومنها دراجتي الهوائية التي كانت تنتظرني خلف بوابة المنزل، هرعت فوراً لأخذها بعد طلوعي من المدرسة وعدت مسرعاً إلى نور فأوقفتها في منتصف الطريق:
-"اصعدي"
-"إلى أين؟"
-"عازمك على كازوزة حمرة!"

حالة جديدة مررنا فيها ومرت فينا آنذاك، سعادة غريبة قد اكتشفناها. قدت الدراجة بسرعة كبيرة بعد تغلّبي على تمنعها الخجول وإجلاسها خلفي، الهواء ملأ صدرينا وتغلغل في شعري حتى تبعثر؛ أمي تغرس مشطها الناعم فيه مطلع كل يوم وتحرثه إلى أقصى يمين الدنيا لكنه يتمرد الآن.. ككل شيء فينا، كلباسنا المدرسي الذي يعيش قصة جموح لم يتنبأ بها يوماً، كشعر نور الذي يجري خلفنا مثل خيوط صباح شامس يطوف بين الحارات، ليشعل في دُجاها قناديل النهار.
بلغ صراخنا حدّه فصار الضحك يخرج من صدورنا بشهقة من صميم الروح، ودموع حلوة تشتتها لسعات الهواء.
-"لماذا لا تزال مخنوقاً؟"
-"أمي تخنقني لمصلحتي يا نور.. افهمي!"

مدّت يدها الملائكية التي تشّع حناناً كهبة سماوية تحمل معها بشارة الخلاص، سحبت "الجوزة" التي حفرنا عليها حروفنا الأولى ذات تحليقٍ، ورمت الفولار:
-"لا تخنق أنفاسك.. تحرر"

ثم وصلنا إلى محل خارج حيّنا صاحبه عجوز نحيل مفتول العظام، فضَّ الزمان له فاه وطوى ملامحه، فكانت لديه صعوبة في لفظ مخارج الحروف ومداخلها، يجاهد نفسه على النطق وحال كل كلمة يُطلق من أنفه زفيراً حاراً يتخلل في شعيرات شاربه الكثّ، ثم يلحس بلسانه المخضّل لثّته العارية.. ظننته سوف يبلعنا!

أشار إليَّ . . .

#يتبع
#نوستالجيا_كتابة

#Ahmad_Almulla