#كازوزة_حمرة
#الجزء_الرابع
#التتمة

ثم أخرجت شيئاً من جزدانها وأخفته عني في باطن كفها، وقالت:
-"أريد الاعتراف لكَ، انتظر" .. وفي عينيها يتجلّى سرٌ ما!

-"هل ستغيبين عنّي من جديد.. قولي.. هيّا نور.. ما بكِ؟"
تعثرتُ كثيراً في كلامي ولا أتذكر ما قلته بالتحديد، فكلّي كان يركز على يديها وما تخفيه، على السر الذي سينتزعنا ربما من أفق العشق ويعيد كل منّا إلى دروبه البائسة، وانتابتني الأحاسيس الغريبة.. فماذا أفعل إن غابت عني نور.. بعدما هبَّ إعصارها اليوم وعصف بي من حيث لم أتوقع؟ لماذا لا تجعلني شالاً أدفّئ ثلج أذرعها.. سأكون راضياً، أو أن تأذن لي بنسج نفسي مع زنار الذهب حول خصرها، أو حتى أن أطوّق عنقها بدل سلسالها المحظوظ الذي تتدلى منه قلادة صغيرة تهوي إلى قاع الجحيم.. انا أريد الجحيم.. اريد أن أعيش الجحيم أبداً معها!
-"اعترفي يا نور.. اعترفي"

-"أنا لست مدعوة لهذا الزفاف، توقعت قدومك وجئت لرؤيتك فقط"

لم أتكلم البتّة ولم أقاطعها، بقيت خائفاً مترقباً أتابع لسانها الأحمر كيف بدأ يغزل الكلام وينثره على مسامعي ببطء:

-"سأحكي لك.. قادني منذ زمن قريب إحساس خفيٌّ فيَّ إلى حيّنا القديم، وإلى مدرستي وحارتي، مررت كثيراً أمام منزلك وكنت أراقب الباب وأتحيّن خروجك منه ببدلتك المدرسية والفولار، لتأخذني من يدي ونهرب من هذا العالم، كنت مثل فتاة ضائعة تنتظر قدوم أهلها في آخر مكان رأتهم فيه، المارّون كانوا ينظرون إلي باستغراب ويتمتمون بكلام أسمعه، لكنّي لم أشعر بالحرج أبداً.. لم أشعر إلّا بشوقي لخروجك"
وتابعت بابتسامة مشوبة:

-"التقيت وقتذاك صديقتي التي كانت تشاركني مقعد الدراسة قديماً، وبعدما تبادلنا بعجلةٍ أخبارنا في سنين الغياب، سألتها عن أوضاع الحارة والحي، فرمت بإهمال أثناء حديثها خبر زواج أحد أبناء جيرانكم، دون أن تعلم ما أحدثته بقولها هذا من صراع كبير وتردد في داخلي، إحساسي الخفي قال لي أنّي سألقاك قريباً، فصممت على المجيء في النهاية، وها هو الأمر قد قضيّ.. وجئت "

ثم أضافت بعد أن لمع الربيع في عينيها وبدأ الدمع يبلل خُضرته:

-"ليالٍ كثيرة كانت تشهد على بكائي إثر ذلك اليوم، صدّقني لقد كان ضربي أهون عليَّ من رؤية عينيك الضاحكتين دوماً، وهما تنظران إليَّ بأسى وعمّي منهمك بضربك.. هل توجعت؟ كنت تبدو موجوعاً! وكان على وجهك دم!"
ثم رفعت رأسها لتُداري انتحار دمعتها وأكملت: "جئت اليوم والشك يساورني بأنك قد نسيتني ومالت بك الدنيا لسواي.. لا أصدقْ حقاً ما الذي يحدث الآن!"

بقيتُ لحظات في موضعي مشدوهاً مدلّهاً، أراقب التسيّد في وقفتها، ووضوح كلامها، وعشب عينيها المندّى، كانت تبدو كالأميرات اللواتي نحلم بهنَّ، فيها فيح النار وأرق الليل وعذوبة الرغبات التي تحلّق في خيالاتي ساعة الصفو، تشوشت يقظتي وبدأت تعيد لي ذكريات ذاك الزمان، رحلتنا القصيرة على الدراجة والعجوز الأفّاق، تذكرت كيف قضيت أياماً كثيرة أتردد أمام محله مع أصدقائي الجدد لنرشقه بالحجارة، وكيف كان ملساناً فصيحاً حينما يمط شفتيه ويشتمنا، تذكرت ضحكاتنا التي كان صداها بالأزقة الضيقة يدوي كرنّةِ الذهب، رسوماتنا التي كنّا نتركها في نهايات دفاتر بعضنا ونتعاهد ألّا نراها حتى يصل كلٌ منّا لبيته، وجرحي الذي أورثني إياه تمردي والذي عاد يلذعني موضعه بعد سنين! لماذا لم أفهم أن نور كانت قريبة مني وأفتح بابنا اللعين حينها!.

-"هذه ذكراكِ يا نور.. كيف أنسى، هذه ذكراكِ"
وأشرتُ على آثار الجرح الذي أبى الزوال منّي "وفي داخلي جروح أكثر"
انبسطت أسارير وجهها وبدأ الفرح يبان في زواياه، ثم أخذت يدي ووضعت فيها الشيء الذي كانت تخفيه.. كانت "جوزة الفولار" المحفورة عليها حروفنا.. لقد احتفظتُ بها طوال هذا الزمن! ثم قالت:
-"وهذه ذكراك عندي"

تقاطعت حكاياتنا أخيراً، وبعد دهشتي بها حانت لحظة الممكن، لقد تحولت الآن الأمنية إلى صدفة، وأصبح حجر النرد بين يدي ويجب علي الاختيار، فإما أن أرميه على طاولة الزمن وأنتظر المصير، وإما أن أفعل ما فعلت.
ثنيت قدمي للخلف وانحنيت بجلالٍ طالباً يدها، والجوزة تنتظر القبول في قعر كفّي؛ لن أرميها للزمن وأنتظر، بل سأجعلها قدّيسة هذه اللحظة وخاتماً يُبارك هذا القضاء الذي جمعنا.. فالحب لا يحتاج لحظ النرد!

مسحتْ دمعة غدرتها وبللت أهداب رموشها الطويلة، ثم شاعت فيها شمس الطفولة من جديد وقالت: "أقبل بشرط!"

فحملتُها بكلتا يديّ نحو صدري، لم أقدر أن أتحاشى أكثر اللهفة للمسها، ودغدغة الشهوة لضمّها، فاستجابت لي ولفّت إحدى ذراعيها حول رقبتي وأشارت بالأخرى نحو بقعة ضوء تنبعث من محل في نهاية الشارع.

-" وما هو شرطك يا نور؟"
-"أريد كازوزة حمرة!"

مجانين هم العاشقون فعلاً .. لا تتنبأ بأفعالهم!
ملأنا الدنيا بصخبنا وصراخنا وصفيرنا، كنت أتأملها عن قرب وأنا أحملها فوق أضلعي راكضاً بها نحو تحقيق الشرط، لم يعبث الزمان أبداً بنقائها، لا تزال صافية كما كانت كالندى وناعمة بيضاء مثل ملبسة اللوز، كنت أتفحص خصلا
#كازوزة_حمرة

صديقٌ عزيزٌ علَيَّ.. أنار الله نصف حياته فقط ونصف هناءه، حتى ساقَ لي ذلك الخبر السار؛ لقد دَهمهُ الحب أخيراً و التقى بمن أورت قلبه عشقاً فقرر لعلّها تنير نصفه المعتم الزواج منها، فدعونا له بالخير، وفي اليوم المقرر لإتمام ضيائه هذا حللنا عنده باكراً أنا والأصدقاء، لتجهيز هيئته وشحذ همّته قبل الانطلاق لقاعة الزفاف.. متمنين اللقاء به قريباً كاملَ البريق تامَّ العافية!

تذمّر ولا زلنا في بيته من ربطة العنق التي تُكبّل رقبته ورقابنا، يطلب شاكياً التخلي عنها وإتمام الزفاف دونها، لتأتيه إجابة ساخرة من مَن سبقه إلى هذا الضياء، ويبشّره بأنها البداية فقط فمعنى الزواج يتلخص هنا.. في ربط العنق. أما أنا فأكاد أنسى أحياناً أني أرتديها ولا مانع عندي من ربطها طوال اليوم، والنوم فيها أيضاً.

ويعود ذلك لطفولتي الزاخرة بالتجارب الضنكة والتي جعلتني أتأقلم مع هكذا أغلال، كانت أمي رغم عظمة حنانها تخنقني كل صباح بـ "الفولار" المدرسي، تشدّه على حلقي وتعصره لأقصى ما يرضيها ولأدنى ما يقتلني، كنت أترجاها أن تحلّه قليلاً لكي أتنفس وبذريعة ألّا يصبح مظهري كأولاد الشوارع، كانت ترمي ندائي عنها وتستمر في الغلّ حتى تلتصق تلك القطعة العظمية التي تسمى "الجوزة" بجوزة حلقي، فيُكتم صياحي عند التحام الجوزتين ويتحول لتضرّع داخلي ومناجاة روحانية.

كنت أتمنى أن أُصبح من هؤلاء الأولاد الذين يملكون ما أفقده أنا كل صباح من حرية ورفاه، لكنّي حينها كنت طفلاً محدود الإدراك غبياً، أمّا الآن فقد بغضتُ هذا التمني وسعدتُ بأنه لم يقع، فثُلة من أولاد الجيران الذين كانوا يربطون "الفولار" كيفما اتفق أو يتخلون عنه بأكمله أصبحوا أصدقائي، بعد أن تقابلنا في أضنك تجارب الطفولة وأكثرها تجولاً في ردهات الذاكرة، في حادثة تمرد قديمة أحياها الزمان الذي شهد عليها بعد سنين طوال في زفاف عزيزي الصديق! ولأنهم لم يتعرضوا للخنق في طفولتهم ها هم الآن يتجرعون المرَّ في كل لحظة تمر مع ربطة العنق.

كانت تلك الحادثة هي بداية تمردي على قوانين أمّي الصارمة، فتاة تقاربني في سنوات عمري القليلة وتجاورني في صفوف المدرسة، كانت هي سبب ثورتي الناعمة.. نسكن في نفس الحي واسمها نور.
ألفنا بعضنا بسرعة بعد تكرار لقائنا في طريق العودة المشترك، وبتنا نمضي معظم وقت الاستراحات معاً، نتقاسم الطعام المخبّأ في حقائبنا ونتبادل الأفكار الصغيرة التي كانت تجول في خواطرنا النقية، كل ذلك بغير علم أحد ولهذا فقد كانت باحة المدرسة هي سماءنا التي نحلّق فيها أحراراً.

وبعنفوان متمرد صغير قد مسّه الغرام قررت التحليق عالياً، والمبادرة بشيء أكثر حميمية وجرأة، فاخترت يوم دوامنا الأخير موعداً لهذا حيث القرار العائلي قد نصَّ على منحي في هذا اليوم بعضاً من حقوقي، ومنها دراجتي الهوائية التي كانت تنتظرني خلف بوابة المنزل، هرعت فوراً لأخذها بعد طلوعي من المدرسة وعدت مسرعاً إلى نور فأوقفتها في منتصف الطريق:
-"اصعدي"
-"إلى أين؟"
-"عازمك على كازوزة حمرة!"

حالة جديدة مررنا فيها ومرت فينا آنذاك، سعادة غريبة قد اكتشفناها. قدت الدراجة بسرعة كبيرة بعد تغلّبي على تمنعها الخجول وإجلاسها خلفي، الهواء ملأ صدرينا وتغلغل في شعري حتى تبعثر؛ أمي تغرس مشطها الناعم فيه مطلع كل يوم وتحرثه إلى أقصى يمين الدنيا لكنه يتمرد الآن.. ككل شيء فينا، كلباسنا المدرسي الذي يعيش قصة جموح لم يتنبأ بها يوماً، كشعر نور الذي يجري خلفنا مثل خيوط صباح شامس يطوف بين الحارات، ليشعل في دُجاها قناديل النهار.
بلغ صراخنا حدّه فصار الضحك يخرج من صدورنا بشهقة من صميم الروح، ودموع حلوة تشتتها لسعات الهواء.
-"لماذا لا تزال مخنوقاً؟"
-"أمي تخنقني لمصلحتي يا نور.. افهمي!"

مدّت يدها الملائكية التي تشّع حناناً كهبة سماوية تحمل معها بشارة الخلاص، سحبت "الجوزة" التي حفرنا عليها حروفنا الأولى ذات تحليقٍ، ورمت الفولار:
-"لا تخنق أنفاسك.. تحرر"

ثم وصلنا إلى محل خارج حيّنا صاحبه عجوز نحيل مفتول العظام، فضَّ الزمان له فاه وطوى ملامحه، فكانت لديه صعوبة في لفظ مخارج الحروف ومداخلها، يجاهد نفسه على النطق وحال كل كلمة يُطلق من أنفه زفيراً حاراً يتخلل في شعيرات شاربه الكثّ، ثم يلحس بلسانه المخضّل لثّته العارية.. ظننته سوف يبلعنا!

أشار إليَّ . . .

#يتبع
#نوستالجيا_كتابة

#Ahmad_Almulla
#كازوزة_حمرة
#الجزء_الثاني

أشار إليَّ بإصبعه المقوّس ومنحني الإذن بدخول المحل لأخذ ما أريد بنفسي، فما يملكه من عزم لا يكفيه للنهوض وخدمتي ثم العودة إلى كرسيه في نفس اليوم.
نشأ بين عينينا أنا ونور حين أعطيتها الكازوزة اشتعالاً أفعمَ باضطرامه نظراتنا الهائمة بعد أن قُدحت بيننا شرارة من الحب المنزّه عن كل غاية، ويجب الاعتراف هنا بأن مشاعري تجاهها في هذه اللحظة لم تكن بهذا الطُهر صراحةً، فما أثارني للقيام بكل ذلك ليس التحليق عالياً فحسب بل هو فيلم رومانسي شاهدته قبل يومين من اللقاء، دعا البطل فيه حبيبته إلى الرقص ثم ألبسها خاتماً وتبادل معها اللعاب!، وفي الختام احتسيا مشروباً أحمراً زاد من سخونة الأحداث استقر يقيني البريء بعد التفكير الطويل به على أنه كازوز.
وربّما كانت هذه خطيئتي أني بدأت من النهاية دون اتباع تعاليم الفيلم، فعاقبني القدر ولم يأذن لي بإتمام ما نويت على فعله، وحرمنا من تبادل أي شيء في موعدنا ومن أن نرقص ومن أن نشرب حتى، لكنّي استطعت تذوق الكازوز.. بعضوٍ آخر غير لساني!.
فبعد أن باغتني القدر وأرسل لي رجلاً غاضباً التقطني من الخلف، خرج ما كان في فمي من كازوز وانسكب من أنفي الذي فرقعت الغازات فيه فأدمعتني، كانت مسكته موجعة مليئة بالحقد الذي يحمله الكبار.. وهو كان كبيراً جداً.

انهال بالضرب عليَّ وقتذاك، ومن شدة بأسه وغلظته لم أتمكن من رؤية شيء سوى رجفاتِ أقدام نور وصياحها، وحين حاول العجوز التدخل والصراخ عليه ليتركني، لم يكن مهيّأ لهذا الموقف الذي يحتاج لجهد كبير منه، فدخل في نوبة سعال ناشفة طويلة الأمد، حيث قد تكسّرنا أنا وكازوزتي ودراجتي وحرارة الكفوف قد ألهبت وجهي، وهو لا يزال يصارع سكرات السعال.

أخذ الرجل نور من يدها بعد أن انتهى مني وأفرغ كل غلّه وغيظه في جسدي الضعيف، ثم جرّها خلفه بكل وحشية وهي تحاول بخطواتها الصغيرة اللحاق به، كانت عيناها ترتعشان خوفاً علَيّ ويدها ممدودة باتجاهي كأنها تدعوني للنهوض واللحاق بها لنكمل ثورتنا التي بدأناها بعهد البقاء معاً، كانت تركض إلى الأمام لكن يدها وقلبها لا يزالان يحاولان الرجوع إلي، حتى أزعجت الكبير فحملها وصار يمضي سريعاً، وحين تغلبت على خفقات قلبي المضطربة ونهضت رافعاً يدي نحوها كانت نور قد اختفت.. اختفاءً طويلاً.

استعاد العجوز مهضوم الحشا أخيراً زمام أنفاسه، مدّ كفّه الصفراء الكبيرة وقبضها مرتين، ثم خاطبني بصوت متهدّج خشبي طالباً مني ثمن أضرار ما تكسر فوقي غير مبالياً بكل ما تعرضت له. لم أكن أفهم ما معنى طلبه هذا وأنا في تلك الحال، كان عليّ أن أقوم بهذا التمرد لأعرف ما تحويه نفوس البشر من شر كان مجهولاً بالنسبة لي، فليس الكل حنوناً.. ليس الكل أمي.
تكوّمتُ حول نفسي على رصيف المحل في ذهول طغى على وجعي بعد أن سلبني العجوز كامل نقودي، تلوثت ملابسي بالكازوز الأحمر، ولم أعرف أنه امتزج بدم بريء سال من خدّي حتى شهقت أمي فور ما رأتني وبدأت في تضميد جرحي، بعدما حملني أولاد الشوارع أنا ودراجتي وخيبتي إليها.

بقيت مترقباً انتهاء العطلة على أمل لقائها، فلم أرها بعد ذلك اليوم في الحارة، لكنّ الشغف وحده لم يكفي لإقناع النصيب أن يعيدنا معاً، فأصبحت وحيداً في المدرسة مع ذكرياتنا فيها، وزواياها التي كانت تبكي معي شوقاً لنور.

لم تكن تلك الحادثة هي سبب فراقنا الرئيسي فنيّة انتقالهم كانت قديمة بحسب ما سمعته من جاراتنا عندما كانوا يتحدثون بخصوص انتقال نور وأهلها إلى بيتهم الجديد، لكنّ الصدمة المرعبة هي من تركت في نفسي كل هذا الألم الذي صار عبر تراكم السنين هاجساً، وهي من تركت في حياتي كل أولاد الشوارع هؤلاء، الذين أصبحوا فيما بعد أعز أصدقائي.. بعد أن كسبوا الرضى والقبول من أمي بإسعافهم لي.
لم يكونوا بهذا السوء الذي سمعته عنهم من قبل فقد تآخينا مع الأيام وأخبروني أنّ الكبير ذاك هو عمّها وأنّه يعمل في الحدادة، وساعدوني أيضاً على أخذ حقي من العجوز المشؤوم. كانوا متفاوتين بالعمر والطول، لكن إناء سريرتهم الذي ينضح بما فيه دائماً، كان مملوءاً بنفس الطباع، ولهذا فقد نضحوا على مسامع صديقنا العريس في أثناء طريقنا إلى قاعة الزفاف بطوفانٍ من النكات الخليعة والنصائح الوقحة التي نهلوها معاً عبر السنين من ينابيع الشارع.

هجمت علينا الزغاريد وبدأت تُقذف تباعاً حين وصلنا بموكب الزفّة إلى البوابة الكبرى للقاعة، وفي كل مرة كان نغمها يتغير، لكن سيدة مُدعبلة في الأربعين من عمرها ذات همّة كانت هي صاحبة الصوت الأصدح هنا. يجب على علماء الحركة أن يدرسوا سرعة اختلاج لسان هذه السيدة، ترفع رأسها للأعلى بزاوية معينة ثم تضع يدها فوق شفتها العليا كأنها تداري شارب قد نبت لها غدراً منذ حين، وتفغر فمها مطلقةً منه لساناً يرتجف في كل اتجاه مع اهتزاز متواتر يصاحب شحم رقبتها الوفير. كانت في غاية السرعة.. أسرع من الضوء!.

قدتُ العريس ممسكاً بذراعه لإيصاله إلى منصّة العروس التي أحنت رأسها خجلاً، وهي منتصبةٌ ببدلتها البيضا
#كازوزة_حمرة
#الجزء_الثالث

عانقتُ العريس عناقاً لن يمرَّ عليه بمثل حنوّته حتى في ليلة اكتماله الأولى، وبالغت في تقبيله كثيراً. إنه عزيزي وروحي والذي لو أخطأ وزاح بقلبه قليلاً وكانت عروسته نور لكنت قد أطفأت نصف الضياء الذي ينير حياته وجعلته جثّة مظلمة مسجّاة.. في وسط هذه الزغاريد.

أردتُ الاقتناع بأنها حقيقة وليست سراباً قد تراءى لي، بدأ الجميع بالرقص والتصفيق ونثر الزهور بعد أن اجتمع العصفوران، فاستغليت هذه الفرصة وبخطوات واسعة من "دبكة" فوضوية اخترعتها بنفسي وجدتُني قريباً منها، كنت محلّقاً بمحبتي، بل محمولاً على أجنحة الملائكة، صرتُ أمام عينيها، تماوج قلبي.. غاب عقلي.. نور؟ وهمست لها!

الذين يرقصون كانوا بعبورهم بيننا كأنهم يمررون ببطء شريط التسجيل لفيلمنا، الذي لم نكن نعلم أنه سيطول كل هذا الزمن، أعادوا إلينا صوراً قد طُبعت في الروح، وحفظها تشويق الحياة الإلهي الذي يؤمن فيه كل من ينتظر النصيب، كنا نتكلم بلغة غير منطوقة لا يعرفها أحدٌ سوانا، بدأناها أمام محل العجوز عندما تدفقت فينا سعادة واحدة أخذتنا إلى عوالمها الخفية، والآن التقت عينانا من جديد بعناقٍ حار، غبتُ خلاله عن كل ما حولي وأظنها أيضاً كانت غائبة، لم نشعر بشيء من حولنا مع التحام النظرات الولهى، فبقينا ساكنين غارقين فيما نحن فيه من صبابة، إلى أن توقف النبض في وجهها وفي قلبي ثم نطقتْ اسمي! بشفتين راجفتين وعين هائمة لم ترمش. أحد لن يشعر بما اعتراني حينها، غبطة عارمة أحاطتني وجذبتني إليها حتى كادت تطرحني أرضاً فناجيتُها قائلاً:
-"التهميني يا غبطة قطعة قطعة.. فإني لازلت تائهاً"
فردت عليَّ الغبطة بنزقٍ كبير:
-"أنا لا ألتهم أحداً يا هذا.. انظر إلى خلفك!"

فنظرت إلى خلفي، رأيت أن من يصفّد يدي ويجذبني إليه هو أحد الأصدقاء، يدعوني لمشاركتهم في الحلقة التي أحاطوا بها العريس بعد أن خطفوه من عروسته.. وليست الغبطة.
إنه لا يخجل! يهز كتفيه ملتصقاً بي ويصرخ، ثم يعاود الانتفاض للخلف بغية إغوائي، ثم يعود للهز ويلتصق.. فينتفض، فيمسكني بكلتا يديه ورجليه، ليشركني بما أسماها ظلماً حلقة رقص.
إنها تعويذة قديمة يستخدمها القبليّون لفتح الشهية قبل التهام ضيوفهم، إنها ضفضفة من السُكارى قد اجتمعوا مبتهلين حول جبٍّ عقيم، ليباركوه ويفيض عليهم بأنهار من "العرق" الرديء الذي يشبه بطعمه القيء.. لكن أقسم بربي أنها ليست حلقة رقص!.
لو أن الله وعده بأنه بفعلته هذه سيدخله دار النعيم دون حساب، قطعاً لن يستمسك بي هكذا. لقد كان مستنفراً كأنه في زفاف أمّه!.. وهذا على حدِّ وصف صديقنا المتزوج صاحب اللسان الأكثر فُحشاً بيننا، والذي يملك رقصة خاصّة به، بدأ باعتمادها بعدما تزوج ابنة عمّهِ التي تشبه عمّهُ.. والتي كانت بزراء خصبة المنبت في كل سنة تحبل وتضع بنتاً، وكانت البنات كلّهن يشبهن أمّهن وجدّهن، وحين يرقص هذا الصديق كان يفرش ذراعيه مثل أجنحة جرادة ثم يدور نصف دورة إلى اليمين ومثلها إلى اليسار ويبقى هكذا حتى يهيج الإيقاع، فيرفع يديه عالياً ويبدأ بالدوران حول نفسه كأنه يطلب المدد من السماء.

لم أندم أبداً أني توسلت لأمي وبكيت تحت قدميها لكي لا تأتي، كان ليّغشى عليها عندما ترى هذا المسترقص الذي فلّج الله أسنانه وجمع حاجبيه وغسل وجهه من أي وقار، وهو يتسلق الرجال والنساء ويسوقهم إلى حلقته، ورغم أنه صغير الجثة قصير القدّ إلّا أنه كان شرساً جداً، فلم أتخلص منه إلا بعد عركة ودودة تبادلنا فيها العضّ والركل ونطح الصدوغ وأصبحت حراً.

-"تعالي إليَّ الآن يا نور تعالي واغمريني فرحاً، أعيديني طفلاً عاشقاً تُذيبه ضحكة منك وترميه قتيلاً لمسة يد"

من شدّة الصخب لم تستطع سماعي ولم أستطع أنا، اتسعت المسافة بيننا وكنت على وشك الانقضاض عليها وأكلها، فقد صارت أحلى وأشهى، مثل حبة خوخ ناضجة يتقطر منها السكر.. أومأت لها برأسي باتجاه طاولة منزوية بعيدة، فتدخلت ذات اللسان! يا إلهي يا رحيم ما هذا الزفاف؟ لم تزغرد فحسب بل كانت متخفية بقرب المكان الذي حددتهُ للقائنا عند الإنارة الخافتة، وقد ساعدها على التخفي لون فستانها السلموني المقصّب الذي يشبه لون الستائر خلفها. حانت مني التفاتة نحوها قبل أن تدرك قدومنا فلاحت لي وهي ممسكة بمرآة صغيرة أمام وجهها، وهنا حدث شيء عجيب! كأنها لجأت لمصفف شعر رخيص فلم تتماسك خصلات شعرها طويلاً، وكانت الخصلة الجليلة التي تتدلى من منتصف جبهتها الأكثر تقصّفاً، ففغرت فمها ورمت بلسانها خارجاً ثم لعقت أصابعها حتى تبللت وبحركة احترافية لولبية أعادت لخصلتها قوامها ولمعانها، ثم مسحت الرطوبة المتبقية في الستائر، وما أن رأتنا قادمين نحوها حتى أصابها التوتر وأطلقت زغرودة من العيار الثقيل قرعت بها طبول آذاننا حدَّ التفتق لتداري خجلها، ثم انصرفت.. كانت في غاية القرف!

اتفقت لحظات وصولنا إلى المكان، أنا ونور، وجلسنا حول طاولة دائرية كالتي تستخدم في المفاوضات، كنت في ذهول وحيرة.. فكيف لي أن أحتمل تقلبات قلبي هذه.. تقلب