#كازوزة_حمرة
#الجزء_الرابع
#التتمة
ثم أخرجت شيئاً من جزدانها وأخفته عني في باطن كفها، وقالت:
-"أريد الاعتراف لكَ، انتظر" .. وفي عينيها يتجلّى سرٌ ما!
-"هل ستغيبين عنّي من جديد.. قولي.. هيّا نور.. ما بكِ؟"
تعثرتُ كثيراً في كلامي ولا أتذكر ما قلته بالتحديد، فكلّي كان يركز على يديها وما تخفيه، على السر الذي سينتزعنا ربما من أفق العشق ويعيد كل منّا إلى دروبه البائسة، وانتابتني الأحاسيس الغريبة.. فماذا أفعل إن غابت عني نور.. بعدما هبَّ إعصارها اليوم وعصف بي من حيث لم أتوقع؟ لماذا لا تجعلني شالاً أدفّئ ثلج أذرعها.. سأكون راضياً، أو أن تأذن لي بنسج نفسي مع زنار الذهب حول خصرها، أو حتى أن أطوّق عنقها بدل سلسالها المحظوظ الذي تتدلى منه قلادة صغيرة تهوي إلى قاع الجحيم.. انا أريد الجحيم.. اريد أن أعيش الجحيم أبداً معها!
-"اعترفي يا نور.. اعترفي"
-"أنا لست مدعوة لهذا الزفاف، توقعت قدومك وجئت لرؤيتك فقط"
لم أتكلم البتّة ولم أقاطعها، بقيت خائفاً مترقباً أتابع لسانها الأحمر كيف بدأ يغزل الكلام وينثره على مسامعي ببطء:
-"سأحكي لك.. قادني منذ زمن قريب إحساس خفيٌّ فيَّ إلى حيّنا القديم، وإلى مدرستي وحارتي، مررت كثيراً أمام منزلك وكنت أراقب الباب وأتحيّن خروجك منه ببدلتك المدرسية والفولار، لتأخذني من يدي ونهرب من هذا العالم، كنت مثل فتاة ضائعة تنتظر قدوم أهلها في آخر مكان رأتهم فيه، المارّون كانوا ينظرون إلي باستغراب ويتمتمون بكلام أسمعه، لكنّي لم أشعر بالحرج أبداً.. لم أشعر إلّا بشوقي لخروجك"
وتابعت بابتسامة مشوبة:
-"التقيت وقتذاك صديقتي التي كانت تشاركني مقعد الدراسة قديماً، وبعدما تبادلنا بعجلةٍ أخبارنا في سنين الغياب، سألتها عن أوضاع الحارة والحي، فرمت بإهمال أثناء حديثها خبر زواج أحد أبناء جيرانكم، دون أن تعلم ما أحدثته بقولها هذا من صراع كبير وتردد في داخلي، إحساسي الخفي قال لي أنّي سألقاك قريباً، فصممت على المجيء في النهاية، وها هو الأمر قد قضيّ.. وجئت "
ثم أضافت بعد أن لمع الربيع في عينيها وبدأ الدمع يبلل خُضرته:
-"ليالٍ كثيرة كانت تشهد على بكائي إثر ذلك اليوم، صدّقني لقد كان ضربي أهون عليَّ من رؤية عينيك الضاحكتين دوماً، وهما تنظران إليَّ بأسى وعمّي منهمك بضربك.. هل توجعت؟ كنت تبدو موجوعاً! وكان على وجهك دم!"
ثم رفعت رأسها لتُداري انتحار دمعتها وأكملت: "جئت اليوم والشك يساورني بأنك قد نسيتني ومالت بك الدنيا لسواي.. لا أصدقْ حقاً ما الذي يحدث الآن!"
بقيتُ لحظات في موضعي مشدوهاً مدلّهاً، أراقب التسيّد في وقفتها، ووضوح كلامها، وعشب عينيها المندّى، كانت تبدو كالأميرات اللواتي نحلم بهنَّ، فيها فيح النار وأرق الليل وعذوبة الرغبات التي تحلّق في خيالاتي ساعة الصفو، تشوشت يقظتي وبدأت تعيد لي ذكريات ذاك الزمان، رحلتنا القصيرة على الدراجة والعجوز الأفّاق، تذكرت كيف قضيت أياماً كثيرة أتردد أمام محله مع أصدقائي الجدد لنرشقه بالحجارة، وكيف كان ملساناً فصيحاً حينما يمط شفتيه ويشتمنا، تذكرت ضحكاتنا التي كان صداها بالأزقة الضيقة يدوي كرنّةِ الذهب، رسوماتنا التي كنّا نتركها في نهايات دفاتر بعضنا ونتعاهد ألّا نراها حتى يصل كلٌ منّا لبيته، وجرحي الذي أورثني إياه تمردي والذي عاد يلذعني موضعه بعد سنين! لماذا لم أفهم أن نور كانت قريبة مني وأفتح بابنا اللعين حينها!.
-"هذه ذكراكِ يا نور.. كيف أنسى، هذه ذكراكِ"
وأشرتُ على آثار الجرح الذي أبى الزوال منّي "وفي داخلي جروح أكثر"
انبسطت أسارير وجهها وبدأ الفرح يبان في زواياه، ثم أخذت يدي ووضعت فيها الشيء الذي كانت تخفيه.. كانت "جوزة الفولار" المحفورة عليها حروفنا.. لقد احتفظتُ بها طوال هذا الزمن! ثم قالت:
-"وهذه ذكراك عندي"
تقاطعت حكاياتنا أخيراً، وبعد دهشتي بها حانت لحظة الممكن، لقد تحولت الآن الأمنية إلى صدفة، وأصبح حجر النرد بين يدي ويجب علي الاختيار، فإما أن أرميه على طاولة الزمن وأنتظر المصير، وإما أن أفعل ما فعلت.
ثنيت قدمي للخلف وانحنيت بجلالٍ طالباً يدها، والجوزة تنتظر القبول في قعر كفّي؛ لن أرميها للزمن وأنتظر، بل سأجعلها قدّيسة هذه اللحظة وخاتماً يُبارك هذا القضاء الذي جمعنا.. فالحب لا يحتاج لحظ النرد!
مسحتْ دمعة غدرتها وبللت أهداب رموشها الطويلة، ثم شاعت فيها شمس الطفولة من جديد وقالت: "أقبل بشرط!"
فحملتُها بكلتا يديّ نحو صدري، لم أقدر أن أتحاشى أكثر اللهفة للمسها، ودغدغة الشهوة لضمّها، فاستجابت لي ولفّت إحدى ذراعيها حول رقبتي وأشارت بالأخرى نحو بقعة ضوء تنبعث من محل في نهاية الشارع.
-" وما هو شرطك يا نور؟"
-"أريد كازوزة حمرة!"
مجانين هم العاشقون فعلاً .. لا تتنبأ بأفعالهم!
ملأنا الدنيا بصخبنا وصراخنا وصفيرنا، كنت أتأملها عن قرب وأنا أحملها فوق أضلعي راكضاً بها نحو تحقيق الشرط، لم يعبث الزمان أبداً بنقائها، لا تزال صافية كما كانت كالندى وناعمة بيضاء مثل ملبسة اللوز، كنت أتفحص خصلا
#الجزء_الرابع
#التتمة
ثم أخرجت شيئاً من جزدانها وأخفته عني في باطن كفها، وقالت:
-"أريد الاعتراف لكَ، انتظر" .. وفي عينيها يتجلّى سرٌ ما!
-"هل ستغيبين عنّي من جديد.. قولي.. هيّا نور.. ما بكِ؟"
تعثرتُ كثيراً في كلامي ولا أتذكر ما قلته بالتحديد، فكلّي كان يركز على يديها وما تخفيه، على السر الذي سينتزعنا ربما من أفق العشق ويعيد كل منّا إلى دروبه البائسة، وانتابتني الأحاسيس الغريبة.. فماذا أفعل إن غابت عني نور.. بعدما هبَّ إعصارها اليوم وعصف بي من حيث لم أتوقع؟ لماذا لا تجعلني شالاً أدفّئ ثلج أذرعها.. سأكون راضياً، أو أن تأذن لي بنسج نفسي مع زنار الذهب حول خصرها، أو حتى أن أطوّق عنقها بدل سلسالها المحظوظ الذي تتدلى منه قلادة صغيرة تهوي إلى قاع الجحيم.. انا أريد الجحيم.. اريد أن أعيش الجحيم أبداً معها!
-"اعترفي يا نور.. اعترفي"
-"أنا لست مدعوة لهذا الزفاف، توقعت قدومك وجئت لرؤيتك فقط"
لم أتكلم البتّة ولم أقاطعها، بقيت خائفاً مترقباً أتابع لسانها الأحمر كيف بدأ يغزل الكلام وينثره على مسامعي ببطء:
-"سأحكي لك.. قادني منذ زمن قريب إحساس خفيٌّ فيَّ إلى حيّنا القديم، وإلى مدرستي وحارتي، مررت كثيراً أمام منزلك وكنت أراقب الباب وأتحيّن خروجك منه ببدلتك المدرسية والفولار، لتأخذني من يدي ونهرب من هذا العالم، كنت مثل فتاة ضائعة تنتظر قدوم أهلها في آخر مكان رأتهم فيه، المارّون كانوا ينظرون إلي باستغراب ويتمتمون بكلام أسمعه، لكنّي لم أشعر بالحرج أبداً.. لم أشعر إلّا بشوقي لخروجك"
وتابعت بابتسامة مشوبة:
-"التقيت وقتذاك صديقتي التي كانت تشاركني مقعد الدراسة قديماً، وبعدما تبادلنا بعجلةٍ أخبارنا في سنين الغياب، سألتها عن أوضاع الحارة والحي، فرمت بإهمال أثناء حديثها خبر زواج أحد أبناء جيرانكم، دون أن تعلم ما أحدثته بقولها هذا من صراع كبير وتردد في داخلي، إحساسي الخفي قال لي أنّي سألقاك قريباً، فصممت على المجيء في النهاية، وها هو الأمر قد قضيّ.. وجئت "
ثم أضافت بعد أن لمع الربيع في عينيها وبدأ الدمع يبلل خُضرته:
-"ليالٍ كثيرة كانت تشهد على بكائي إثر ذلك اليوم، صدّقني لقد كان ضربي أهون عليَّ من رؤية عينيك الضاحكتين دوماً، وهما تنظران إليَّ بأسى وعمّي منهمك بضربك.. هل توجعت؟ كنت تبدو موجوعاً! وكان على وجهك دم!"
ثم رفعت رأسها لتُداري انتحار دمعتها وأكملت: "جئت اليوم والشك يساورني بأنك قد نسيتني ومالت بك الدنيا لسواي.. لا أصدقْ حقاً ما الذي يحدث الآن!"
بقيتُ لحظات في موضعي مشدوهاً مدلّهاً، أراقب التسيّد في وقفتها، ووضوح كلامها، وعشب عينيها المندّى، كانت تبدو كالأميرات اللواتي نحلم بهنَّ، فيها فيح النار وأرق الليل وعذوبة الرغبات التي تحلّق في خيالاتي ساعة الصفو، تشوشت يقظتي وبدأت تعيد لي ذكريات ذاك الزمان، رحلتنا القصيرة على الدراجة والعجوز الأفّاق، تذكرت كيف قضيت أياماً كثيرة أتردد أمام محله مع أصدقائي الجدد لنرشقه بالحجارة، وكيف كان ملساناً فصيحاً حينما يمط شفتيه ويشتمنا، تذكرت ضحكاتنا التي كان صداها بالأزقة الضيقة يدوي كرنّةِ الذهب، رسوماتنا التي كنّا نتركها في نهايات دفاتر بعضنا ونتعاهد ألّا نراها حتى يصل كلٌ منّا لبيته، وجرحي الذي أورثني إياه تمردي والذي عاد يلذعني موضعه بعد سنين! لماذا لم أفهم أن نور كانت قريبة مني وأفتح بابنا اللعين حينها!.
-"هذه ذكراكِ يا نور.. كيف أنسى، هذه ذكراكِ"
وأشرتُ على آثار الجرح الذي أبى الزوال منّي "وفي داخلي جروح أكثر"
انبسطت أسارير وجهها وبدأ الفرح يبان في زواياه، ثم أخذت يدي ووضعت فيها الشيء الذي كانت تخفيه.. كانت "جوزة الفولار" المحفورة عليها حروفنا.. لقد احتفظتُ بها طوال هذا الزمن! ثم قالت:
-"وهذه ذكراك عندي"
تقاطعت حكاياتنا أخيراً، وبعد دهشتي بها حانت لحظة الممكن، لقد تحولت الآن الأمنية إلى صدفة، وأصبح حجر النرد بين يدي ويجب علي الاختيار، فإما أن أرميه على طاولة الزمن وأنتظر المصير، وإما أن أفعل ما فعلت.
ثنيت قدمي للخلف وانحنيت بجلالٍ طالباً يدها، والجوزة تنتظر القبول في قعر كفّي؛ لن أرميها للزمن وأنتظر، بل سأجعلها قدّيسة هذه اللحظة وخاتماً يُبارك هذا القضاء الذي جمعنا.. فالحب لا يحتاج لحظ النرد!
مسحتْ دمعة غدرتها وبللت أهداب رموشها الطويلة، ثم شاعت فيها شمس الطفولة من جديد وقالت: "أقبل بشرط!"
فحملتُها بكلتا يديّ نحو صدري، لم أقدر أن أتحاشى أكثر اللهفة للمسها، ودغدغة الشهوة لضمّها، فاستجابت لي ولفّت إحدى ذراعيها حول رقبتي وأشارت بالأخرى نحو بقعة ضوء تنبعث من محل في نهاية الشارع.
-" وما هو شرطك يا نور؟"
-"أريد كازوزة حمرة!"
مجانين هم العاشقون فعلاً .. لا تتنبأ بأفعالهم!
ملأنا الدنيا بصخبنا وصراخنا وصفيرنا، كنت أتأملها عن قرب وأنا أحملها فوق أضلعي راكضاً بها نحو تحقيق الشرط، لم يعبث الزمان أبداً بنقائها، لا تزال صافية كما كانت كالندى وناعمة بيضاء مثل ملبسة اللوز، كنت أتفحص خصلا