#كازوزة_حمرة#الجزء_الثانيأشار إليَّ بإصبعه المقوّس ومنحني الإذن بدخول المحل لأخذ ما أريد بنفسي، فما يملكه من عزم لا يكفيه للنهوض وخدمتي ثم العودة إلى كرسيه في نفس اليوم.
نشأ بين عينينا أنا ونور حين أعطيتها الكازوزة اشتعالاً أفعمَ باضطرامه نظراتنا الهائمة بعد أن قُدحت بيننا شرارة من الحب المنزّه عن كل غاية، ويجب الاعتراف هنا بأن مشاعري تجاهها في هذه اللحظة لم تكن بهذا الطُهر صراحةً، فما أثارني للقيام بكل ذلك ليس التحليق عالياً فحسب بل هو فيلم رومانسي شاهدته قبل يومين من اللقاء، دعا البطل فيه حبيبته إلى الرقص ثم ألبسها خاتماً وتبادل معها اللعاب!، وفي الختام احتسيا مشروباً أحمراً زاد من سخونة الأحداث استقر يقيني البريء بعد التفكير الطويل به على أنه كازوز.
وربّما كانت هذه خطيئتي أني بدأت من النهاية دون اتباع تعاليم الفيلم، فعاقبني القدر ولم يأذن لي بإتمام ما نويت على فعله، وحرمنا من تبادل أي شيء في موعدنا ومن أن نرقص ومن أن نشرب حتى، لكنّي استطعت تذوق الكازوز.. بعضوٍ آخر غير لساني!.
فبعد أن باغتني القدر وأرسل لي رجلاً غاضباً التقطني من الخلف، خرج ما كان في فمي من كازوز وانسكب من أنفي الذي فرقعت الغازات فيه فأدمعتني، كانت مسكته موجعة مليئة بالحقد الذي يحمله الكبار.. وهو كان كبيراً جداً.
انهال بالضرب عليَّ وقتذاك، ومن شدة بأسه وغلظته لم أتمكن من رؤية شيء سوى رجفاتِ أقدام نور وصياحها، وحين حاول العجوز التدخل والصراخ عليه ليتركني، لم يكن مهيّأ لهذا الموقف الذي يحتاج لجهد كبير منه، فدخل في نوبة سعال ناشفة طويلة الأمد، حيث قد تكسّرنا أنا وكازوزتي ودراجتي وحرارة الكفوف قد ألهبت وجهي، وهو لا يزال يصارع سكرات السعال.
أخذ الرجل نور من يدها بعد أن انتهى مني وأفرغ كل غلّه وغيظه في جسدي الضعيف، ثم جرّها خلفه بكل وحشية وهي تحاول بخطواتها الصغيرة اللحاق به، كانت عيناها ترتعشان خوفاً علَيّ ويدها ممدودة باتجاهي كأنها تدعوني للنهوض واللحاق بها لنكمل ثورتنا التي بدأناها بعهد البقاء معاً، كانت تركض إلى الأمام لكن يدها وقلبها لا يزالان يحاولان الرجوع إلي، حتى أزعجت الكبير فحملها وصار يمضي سريعاً، وحين تغلبت على خفقات قلبي المضطربة ونهضت رافعاً يدي نحوها كانت نور قد اختفت.. اختفاءً طويلاً.
استعاد العجوز مهضوم الحشا أخيراً زمام أنفاسه، مدّ كفّه الصفراء الكبيرة وقبضها مرتين، ثم خاطبني بصوت متهدّج خشبي طالباً مني ثمن أضرار ما تكسر فوقي غير مبالياً بكل ما تعرضت له. لم أكن أفهم ما معنى طلبه هذا وأنا في تلك الحال، كان عليّ أن أقوم بهذا التمرد لأعرف ما تحويه نفوس البشر من شر كان مجهولاً بالنسبة لي، فليس الكل حنوناً.. ليس الكل أمي.
تكوّمتُ حول نفسي على رصيف المحل في ذهول طغى على وجعي بعد أن سلبني العجوز كامل نقودي، تلوثت ملابسي بالكازوز الأحمر، ولم أعرف أنه امتزج بدم بريء سال من خدّي حتى شهقت أمي فور ما رأتني وبدأت في تضميد جرحي، بعدما حملني أولاد الشوارع أنا ودراجتي وخيبتي إليها.
بقيت مترقباً انتهاء العطلة على أمل لقائها، فلم أرها بعد ذلك اليوم في الحارة، لكنّ الشغف وحده لم يكفي لإقناع النصيب أن يعيدنا معاً، فأصبحت وحيداً في المدرسة مع ذكرياتنا فيها، وزواياها التي كانت تبكي معي شوقاً لنور.
لم تكن تلك الحادثة هي سبب فراقنا الرئيسي فنيّة انتقالهم كانت قديمة بحسب ما سمعته من جاراتنا عندما كانوا يتحدثون بخصوص انتقال نور وأهلها إلى بيتهم الجديد، لكنّ الصدمة المرعبة هي من تركت في نفسي كل هذا الألم الذي صار عبر تراكم السنين هاجساً، وهي من تركت في حياتي كل أولاد الشوارع هؤلاء، الذين أصبحوا فيما بعد أعز أصدقائي.. بعد أن كسبوا الرضى والقبول من أمي بإسعافهم لي.
لم يكونوا بهذا السوء الذي سمعته عنهم من قبل فقد تآخينا مع الأيام وأخبروني أنّ الكبير ذاك هو عمّها وأنّه يعمل في الحدادة، وساعدوني أيضاً على أخذ حقي من العجوز المشؤوم. كانوا متفاوتين بالعمر والطول، لكن إناء سريرتهم الذي ينضح بما فيه دائماً، كان مملوءاً بنفس الطباع، ولهذا فقد نضحوا على مسامع صديقنا العريس في أثناء طريقنا إلى قاعة الزفاف بطوفانٍ من النكات الخليعة والنصائح الوقحة التي نهلوها معاً عبر السنين من ينابيع الشارع.
هجمت علينا الزغاريد وبدأت تُقذف تباعاً حين وصلنا بموكب الزفّة إلى البوابة الكبرى للقاعة، وفي كل مرة كان نغمها يتغير، لكن سيدة مُدعبلة في الأربعين من عمرها ذات همّة كانت هي صاحبة الصوت الأصدح هنا. يجب على علماء الحركة أن يدرسوا سرعة اختلاج لسان هذه السيدة، ترفع رأسها للأعلى بزاوية معينة ثم تضع يدها فوق شفتها العليا كأنها تداري شارب قد نبت لها غدراً منذ حين، وتفغر فمها مطلقةً منه لساناً يرتجف في كل اتجاه مع اهتزاز متواتر يصاحب شحم رقبتها الوفير. كانت في غاية السرعة.. أسرع من الضوء!.
قدتُ العريس ممسكاً بذراعه لإيصاله إلى منصّة العروس التي أحنت رأسها خجلاً، وهي منتصبةٌ ببدلتها البيضا